مقالات وآراء

هل نجح طوفان الأقصى في إحداث تغيير ديمغرافي عميق لدى الكيان؟

‭‬ علي حمدالله

الديمغرافيا هي دراسة الخصائص السكانية والتغيّرات التي تطرأ عليها، وبالنسبة للمشروع الصهيوني فهي مسألة «أمن قومي» بسبب طبيعته كمشروع إحلالي استيطاني، وساهمت الديمغرافيا في تعبئة المخططات الاستيطانية الصهيونية وفي كثير من الأحيان فشلت هذه المخططات بسبب عدم توفّر ديمغرافيا كافية، فالعمق الجغرافي الضيّق ومحدودية عدد السكّان من أهمّ المحددات الاستراتيجية للمشروع الصهيوني.
في كيان الاحتلال لا تعتمد الديمغرافيا من ناحية كميّة على معدلات النمو الطبيعي، بل تعتمد وبشكل كبير أيضاً على القدرة على استقطاب مستوطنين جدد من دول ومجتمعات مختلفة.
وبحسب دائرة الإحصاء المركزية في تل أبيب، بلغ عدد سكان «إسرائيل» نهاية عام 2022 حوالي 9.6 مليون، منهم 7.1 مليون من اليهود، 2 مليون عربي فلسطيني أيّ أكثر من الخمس، و513 ألفاً لم يحدّدوا قومية لهم أيّ ليسوا يهوداً.
ولكن هل ساهم الطوفان في إحداث تغيير ديمغرافي عميق في الكيان؟ كيف ذلك؟
النزوح الداخلي
بحسب منظمة النزوح الداخلي (منظمة دولية غير ربحية)، بلغ عدد حالات النزوح الداخلي في «إسرائيل» مع نهاية عام 2023 حوالي 203 ألف حالة، وعدد النازحين حوالي 200 ألف نازح، الفرق بين الرقمين يشير إلى أنّ هناك من نزح أكثر من مرة، ونصف النازحين من الفئة العمرية 18-59 أي القوة العاملة والشباب.
وترى المنظمّة أنّ العدد الحقيقي قد يكون أكبر من ذلك، للأسباب التالية:
ـ لا يوجد مراقبة منظمة للنزوح الداخلي على مستوى الكيان.
ـ تشير التقديرات إلى أنّ نسبة أعلى من الإسرائيليين اضطرت للهروب إلى ملاجئ عند مرحلة ما، ولكن هذه الأرقام من الصعب تحديدها.
ـ الأرقام لا تشمل من أعيد تسكينه في مكان جديد.
أثر النزوح كأثر الفراشة، يطال البنية النفسية والاجتماعية للكيان، ويرفع كلفة إدارة النزوح، ويتطلب تخصيص المزيد من الموارد والكوادر لإدارة ملف النزوح.
القدوم والهجرة المعاكسة
بفعل طوفان الأقصى تتحوّل «إسرائيل» من بيئة جاذبة للمستوطنين الجدد، إلى بيئة طاردة للمستوطنين الحاليين، إذ تشير التقديرات المتحفظة إلى أنّ نصف مليون مستوطن هاجروا/ هربوا خلال الأشهر الأولى بحسب بيانات سلطة السكان والهجرة الإسرائيلية، وبحسب قناة 12 العبرية، فالعدد وصل إلى مليون مع نمو ظاهرة إنشاء تجمعات استيطانية في الخارج، وأسباب الهروب ما زالت موجودة ومتصاعدة، ما يرجح ارتفاع الرقم مع الزمن.
كما تراجع عدد المستوطنين الجدد الوافدين لـ «إسرائيل»، ففي شهر 11 (شهر بعد الطوفان) انخفض عددهم بحوالي 70% مقارنة بنفس الشهر للعام الماضي، ومع استمرار ظروف انعدام الأمن وأزمة الاقتصاد بالمعدل مرجح للانخفاض المستمر.
ويشير مسح نفذته الجامعة العبرية من خلال مبادرة المنظمة الصهيونية العالمية بأنّ من بين حملة الجنسية الإسرائيلية في الخارج، 80% لا ينوون العودة إلى «إسرائيل» رغم عدم شعورهم بالأمان في أماكن إقامتهم الحالية، كما أضطر 70% منهم إلى تغيير سلوكهم في الأماكن العامة، و44% منهم عززوا من قدراتهم الذاتية للدفاع عن النفس.
الخسائر البشرية
عدد قتلى الجيش وصل 690 قتيلاً، وعدد الجرحى والمصابين أكثر من ألف حالة/ شهر بمجموع 10056 في الأشهر العشرة الأولى، 68% منهم جنود احتياط، 82% منهم من الفئة العمرية 18-40 عاماً.
ارتفاع الخسائر في صفوف الاحتياطي مقابل النظامي يشير إلى التفاوت في الجاهزية والاستعداد، وتركّز الإصابات في الفئات العمرية الشابّة يشير إلى أنّ الخسائر البشرية تتعدى الجيش لتصل إلى الاقتصاد.
تعتبر هذه التقديرات متحفظة جداً في ظلّ التعتيم الإعلامي المطلق على أعداد الخسائر البشرية، ولا تشمل حالات التمرّد ورفض الخدمة العسكرية ورفض التجنيد، واللجوء للتزوير والكذب بهدف الهروب من الخدمة العسكرية.
تجنيد الاحتياط
تنبني عقيدة الجيش الإسرائيلي على نظرية «أمة تحت السلاح» التي تعني التجنيد العام للرجال والنساء، وتتراوح أعمار معظم جنود الاحتياط بين 30-45 عاما، 17% منهم ضباط، استُدعي منهم حوالي 360 ألفاً، عشرات الآلاف منهم استدعوا من خارج «إسرائيل» ويحملون أكثر من جنسيّة، الأمر الذي أثار ردود فعل دبلوماسية.
تجنيد أعداد كبيرة من الاحتياط ولمدد طويلة يحمل العديد من الآثار السلبية العميقة، إذ تصل الكلفة المباشرة إلى مليار و300 ألف دولار شهرياً، يضاف لها كلفة فقدان أيّام العمل لجنود الاحتياط بنحو نصف مليار دولار شهرياً، كما يساهم تجنيد الاحتياط في تغيير أنماط الحياة بشكل كبير، وتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد حرب حيث تعطى الأولوية للجيش في كلّ شيء مثل المواد الغذائية والوقود وحتى المرور في الطرقات، ويطال التجنيد قطاعات حيوية في الحروب مثل الأطباء والمهندسين العسكريين والمشتغلين في قطاعات التصنيع العسكري، علماً أنّ الإسرائيليين عاشوا حياة من الرفاهية والرغد التي تقوّضت بسبب حالة الطوارئ الممتدة.
ولتعويض العجر في القوات العسكرية البشرية، يلجأ الجيش الإسرائيلي إلى تجنيد الوحيدين والمرتزقة وتوسيع عدد الاحتياط.
والجندي الوحيد بحسب مركز الجنود هو من ليس لديه عائلة في «إسرائيل»، فإمّا يكون مهاجراً جديداً أو متطوعاً من الخارج أو يتيماً أو فرداً من أسرة مفكّك، ويصل عددهم إلى 7000، 45% منهم مهاجر جديد، 50% منهم أيتام إسرائيليين أو من خلفيات اجتماعية واقتصادية صعبة.
أما المرتزقة، فتتكتم «إسرائيل» على أعدادهم الحقيقية ولكن تسمح بتصريحات صحافية لتشجيع الباحثين عن المال للانضمام إلى جيشها، آلاف من المرتزقة يقاتلون في صفوف الجيش الإسرائيلي من جنسيات مختلفة، وفق تقارير صحافية وسياسية. وتسعى «إسرائيل» الآن لرفع أعداد المجنّدين الاحتياط عبر الضغط على الحريديم واستدعاء المتقاعدين وكبار السن. هذه التركيبة في الجيش تعزز عدم التجانس الناجم عن تفاوت الجاهزية للقتال، والانحدار من خلفيات اجتماعية مختلفة، وتباين الأعمار، واختلاف الوظائف وطبيعة العمل.
الكادر البشري والقوّة العاملة
تساهم عدّة عوامل في مفاقمة أزمة نقص القوة العاملة والكادر البشري المتخصص، فواقع الحرب يتطلب إعادة توزيع الكادر البشري كمّاً ونوعاً لملاقاة الاحتياجات الطارئة والمستجدة، كما أنّ تجنيد الاحتياط والنزوح والهجرة المعاكسة ساهموا بشكل مباشر في إفراغ القوة العاملة والكادر البشري من الاقتصاد والقطاعات الخدماتية. وبسبب الحرب هرب العديد من العمّال الأجانب، حيث انخفض عدد عمال الزراعة بمعدل 22% بواقع انخفاض 20 ألف عامل زراعي مقارنة بالعدد قبل الطوفان، وخسر سوق العمل حوالي 150-200 ألف عامل فلسطيني تم تسريحهم لأسباب أمنية.
وفي قطاع الصحة العامة والنفسيّة، صرح مدير وزارة الصحة الإسرائيلية موشيه بار سيمان طوف أنّه من أصل السكّان المقدر عددهم بحوالي 9.7 مليون، تعرّض مائة ألف لحوادث قد تسبب صدمة نفسية منذ السابع من أكتوبر الماضي، أي حوالي 10%، ووزير الصحة الإسرائيلي أوريئيل بوسو قال منذ أشهر: «دولة إسرائيل تتواجد في خضمّ الأزمة النفسية الأكبر منذ قيامها، علماً أنّ قطاع الصحة النفسية عانى من نقص شديد في الكادر حتى قبل أحداث السابع من أكتوبر». وعليه قامت «إسرائيل» بوضع خطة لتعزيز قطاع الصحة النفسية الإسرائيلية لملاقاة الاحتياجات الجديدة من خلال استثمار مئات ملايين الشواقل بحسب سموتريتش.
وحسب دراسة أعدها «يوليا ترايستر-غولتسمان وروني بيليغ، نشرت على المجلّة الإسرائيلية لأبحاث سياسات الصحة في 16 فبراير 2023، بخصوص الأطباء تشهد «إسرائيل» انخفاضاً في العرض ناتج عن انخفاض تدفق الأطباء المهاجرين (المستوطنين) إليها من دول الاتحاد السوفياتي سابقاً، وخروج جزء كبير من الأطباء إلى التقاعد، مع استحالة رفع عدد طلاب الطب الجدد بسرعة خاصّة أنّ عدد مراكز التدريب الطبي غير كافية، وترى الدراسة أنّ النمو السكّاني السريع وارتفاع معدل الشيخوخة سيفاقم الأزمة. ونضيف أنّ الأزمة في نقص الكادر الطبي والنفسي تتضاعف بشكل كبير في ظلّ الحرب.
وتواجه أقسام إطفاء الحريق مشكلة نقص الكادر في الظروف الطبيعية ومنذ ما قبل الطوفان، حيث تقدر قوّات الإطفاء الإسرائيلي بحوالي ألفين، محدودية العدد ترفع مستوى الصعوبة لتغطية مساحات واسعة من الحرائق وفي أماكن متعددة أو الوصول إليها في الوقت المناسب، وتمّ تصميم خطة لتجنيد 3500 متطوّع للانضمام إلى فرق الإطفاء من الفتية والشباب، وإطلاق حملة دولية لتجنيد التبرعات للخطة، وخلال الأشهر العشرة الأولى تعاملت فرق الإطفاء مع 790 حادثة حريق جراء سقوط صواريخ، حيث احترق حوالي 158 ألف دونم في أنحاء الشمال، 90 ألف منهم في الجولان وخمسين ألفاً في الجليل الأعلى، على أقل تقدير.
وتسعى الحكومة الإسرائيلية لجسر الفجوة في القوة العاملة عبر استقطاب عمالة أجنبية جديدة من أوزبكستان والهند وسيريلانكا، الأمر الذي يساهم في تغيير أنماط الحياة والعمل في إسرائيل ويهدد جودة المنتجات والخدمات، ويتطلب موارد وكوادر بشرية جديدة لإدارة العمالة الأجنبية الوافدة.
أثر الطوفان على تغيير الديمغرافيا «الإسرائيلية»
ونقصد بالتغيير الديمغرافي بفعل الطوفان التغيّر في أماكن عمل أو سكن المكوّنات الديمغرافية الإسرائيلية، ومن ناحية كميّة، وبالاعتماد على التقديرات المتحفظة:
عدد النازحين 200 ألف، الهجرة المعاكسة مليون، تجنيد الاحتياط 360 ألف، تسريح العمال الفلسطينيين حوالي 150 ألف، هروب آلاف من العمالة الأجنبية (20 ألفاً من قطاع الزراعة فقط)، 10 ألف مصاب وقتيل، المجموع حوالي أكثر من مليون و700 ألف، وذلك دون احتساب الأعراض النفسية والعقلية في السكّان والتي تصل إلى ما لا يزيد عن 100 ألف.
إنّ التغيّر الديمغرافي لمليون و700 ألف من أصل أقلّ من عشرة ملايين لن ينحصر أثره عند هذا العدد، فلكل فرد منهم نطاق تأثير اجتماعي واقتصادي ونفسي يمتدّ لمحيطه، مثلاً إصابة جندي يعني تأثر دائرة عائلته وأصدقائه مباشرة، كما أنّ إفراغ إحدى المنشآت الاقتصادية من ربع المشتغلين بها للتجنيد الاحتياطي سيؤثر بشكل مباشر على باقي المشتغلين في نفس المنشأة وعلى الاقتصاد ككل.
الاستنتاج
نجح الطوفان في إحداث تغيير ديمغرافي عميق وواسع، يطال مختلف مكونات وشرائح الاحتلال، بحيث يمكن وصفه بأنّه إعادة هندسة ديمغرافية لجمع الكيان، علماً أنّ استمرار حرب الاستنزاف بشكل عام سيفاقم الأزمة الديمغرافية على كل المستويات، وتوسيع نطاق ضربات المقاومة اللبنانية لتطال مستوطنات جديدة بشكل خاص سيفاقم الأزمة بشكل سريع وفعّال، واستمرار الحرب النفسية المباشرة وغير المباشرة سيساهم في رفع أعداد الهجرة المعاكسة ومفاقمة الأزمة النفسية.
التغيّر الواسع والعميق في البنية الديمغرافية سيترك أثاراً عميقة في البنية النفسية والاجتماعية، وسيبدو شكل الحياة في ظلّ الحرب وبعدها غريباً على الإسرائيليين، ما يساهم في تقويض الولاء والإنتماء وتعزيز شعور عدم الاستقرار.
وأخيراً، إذا نجح فلسطينيو الداخل في التقاط اللحظة المناسبة لتنظيم إضرابات عن العمل تحت مطلب وقف الإبادة، سيكون لذلك أثر واسع في تعميق الأزمة الديمغرافية، خاصّة إذا طالت الإضرابات القطاعات الحيوية كالصحة والمواصلات.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى