مقالات وآراء

«جورج قرم» عنيدٌ في مواجهة الهيمنة الغربيّة ونزيهٌ مقاومٌ للفساد

 د. عبدالله عيسى

في لبنان قامات فكريّة وثقافيّة راقية ونزيهة تفرض احترامها في رصانتها وموقفها وجدّيتها. وجورج قرم هو أحد هؤلاء الأعلام الكبار. لا يشترط أن تكون زميلاً أو صديقاً يكتنز من تجربته، أو تلميذاً ينهل من علمه مباشرةً ويقتفي أثره، أو شريكاً في عمله أو حياته، وربّما قريباً على صهوة إرثه في الحضور والفكر والموقف، حتى يسيل قلمك عن ذلك الأكاديمي العريق، والمفكّر الطليق من كلاسيكيّات بالية لا تصيب الواقع أو من سقطات أو إسقاطات متسرّعة لا تقف على أساس متين. يكفي أن تكون قارئاً انتقائياً لكتاب من كتبه، أو لنبذة عنها، ومشاهد لمقابلاته الإذاعيّة أو التلفزيونيّة، حتى تستوقفك فيه أبعاد ثلاثة: شخصيّته (سماته وسجاياه الخاصّة وبعض قيَمه)، إنتاجه الفكريّ، أدوراه ومواقفه.
جورج قرم لمن لا يعرفه، هو من قماشة تشبه حدّ الانسجام التام سليم الحص في النزاهة والوطنيّة والقوميّة والعمل الدؤوب، والثقة بالذات وقوّة الحضور المبني على المعرفة ووعي مخاطر الاتجاهات السياسيّة والاقتصاديّة على البلاد والصمود أمام ملوك الطوائف وأمراء الحرب العبثيّة المستدامة في الشارع والمؤسّسات والتشريعات.
ميزة أمثال هذه القامات أنها حافظت على نقائها وسط قوّة نفوذ الفاسدين وموجات الفساد المتحوّرة والمقوننة، صانت قيَمها باستقامة تحطّمت عند أعتابها تلك المقولة التاريخيّة العابرة، والعبارة الرديئة والعمياء العارية من الأدب والسياسة والعلم والأخلاق وأمل التغيير «كلّن يعني كلّن»، مع انحياز عقلانيّ شديد «للعاميّات الشعبيّة» في بلوغها حقوقّها في الإصلاح وضرب الفساد، فثمّة أبرياء من كلّ تهمة، وأبطال رغم معاندة صيغ النظام وموازين القوى والظروف، وأذكياء في حمل المسؤوليّة وإشعال بصيص الضوء دون رجم الظلام باللّعنة. فـ جورج قرم وزير الماليّة ليس من تلك البطانة، وليس ممّن تلوّثت أيديهم، بل هو من أولئك الذين قادوا حملة الانقلاب على السياسات الاقتصاديّة والماليّة الخطيرة من داخل الحكومة، وقدّموا مساعيهم في الإصلاح بكلّ ما استطاعوا إليه سبيلا.
تبقى قامته الذاخرة تختمر في ندرتها، رغم سيولة فكره وثراء إنتاجه إلّا أنّه صاحب منطق رصين، متماسك وواضح، وذو رأي حصيف في الفكر والاقتصاد والسياسة والقانون والتاريخ؛ له مبانيه التي يشيّد عليها منظاره ومنظوره ويرسم من خلالها أفقه في قيادة الحلّ عند مواجهة المشكلات والأزمات.
لا يعني أن تتوافق معه بالضرورة حتى يُصار إلى التسليم بكلّ ما ذهب إليه، أو أن تُطابِقَ مبانيك مبانيه، ولا يعني أن يسلم من النقد ببعض ما طرحه.
فالنظرة الفلسفيّة والمباني الفكريّة التي يستند إليها، ونظرته إلى الدين والوجود، ومحركيّة الأديان في التاريخ، والنظرة إلى التراث وقابليّته الحياتيّة، ومقاربته الثورة الإيرانيّة بوصفها شعبيّة أم دينيّة، كلّها وغيرها من الموضوعات والقضايا والمسائل التي يمكن وربما تقتضي الضرورة الاعتقاديّة أو الاستدلاليّة البرهانيّة و/أو الاستقرائيّة إثارة النقاش حولها، وربّما التباين فيها وبنحو معمّق؛ لكنها جسور التواصل والاحترام المعرفي التبادليّ التي يعلي من شأنها الراحل بصمت.
يمرّ قطار العمر عند الرجل الثمانيني بسرعة، ولا يخطفه منه اهتمامه بنهضة المشرق العربي في القرن التاسع عشر وقضاياه، بل يشدّه انهمامه بما يناهض تغريب العالم بخاصة عبر العولمة بوصفها ثمرة استعمار أوروبا للعالم منذ القرن السادس عشر.
يتوقّف جورج قرم في «ذكائه السياقيّ»، عند محطّة «بلقنة المشرق العربي على اثر سايكس – بيكو وإنشاء الكيانات القطريّة المنفصلة، حتى غدت المصالح القطرية متناقضة في ما بينها، وساد الانقسام ورُفض العمل الجماعيّ وباتت سياسة المحاور العربيّة سمة رئيسيّة في الحياة الجماعيّة العربيّة، رغم إنشاء الجامعة العربيّة وقيادة المنحى العروبي المعادي للاستعمار، ممّا أدّى إلى عدم مواجهة الظاهرة الصهيونيّة والاستيطان الصهيوني، بل نشأت مطامع عربيّة بتجزئة فلسطين على حساب وحدتها.
يحذّر من بعض الدراسات الميكرويّة التي قد لا تنتج فائدة معتدّاً بها أو التي تساهم في تكريس الهويّات الفرعيّة الطائفيّة والمذهبيّة بدلاً من أن تساهم في الوحدة والوئام والتئام الاجتماع. ولا يهمل دور البنيّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وأهميّتها في التأثير على إعادة بناء الواقع على أسس تحقّق النهوض. وينبّه إلى خطأ استيراد الإشكاليّات من الغرب، مؤكّداً على أهميّة بناء نظام إدراكي عربي موحّد للنظر إلى العالم.
جورج قرم الناقد اللاذع، يميط اللثام عن غزو المقولات الغربيّة في الإعلام العربيّ، وهي تراعي مصالح الولايات المتّحدة الأميركيّة فيما القضية الفلسطينيّة لا تُسمع، ويسأل مستنكراً ومندهشاً: هل يمكن أن نكون معتدلين بحقّ في شأن حقوق الفلسطينيّين أو الاستيطان الإسرائيليّ؟
ثم يردف السؤال بإجابة قاطعة، إمّا يوجد حق أو لا يوجد، ولا معنى لمقولة الاعتدال في هذا الأمر. ويخلص جازماً، لا يمكن أن أكون معتدلاً في تطبيق القانون، إمّا يطبّق وإمّا لا يطبّق. فالاحتلال يشكّل جزءاً جوهريّاً من ديناميكيّة الفشل. وهو لم يتردّد بوصف أولئك الذين سلكوا مسار «أوسلو» بالسذاجة، باعتباره مساراً تفاوضيّاً غير متكافئ يؤدّي إلى استكمال الاستيطان الصهيونيّ، فمسار السلام هو مسار الاستيطان، وبالتالي يؤدّي إلى إنهاء القضيّة الفلسطينيّة.
لقد كسر «العدوان الثلاثي» على مصر في عام 1956 عالمه الجميل، وتراه ينتقد أولئك الذين انساقوا خلف مقولة «صدام الحضارات»، بدلاً من سطوع القول الصارم إن هناك استعماراً أميركيّاً، وقد رأى في الغزو العراقيّ لإيران على سبيل المثال، مغايرة «لسلوك العاقل» الذي يقتحم بالعراق بلداً مثل إيران في حجمه ومقوّماته، ويكشف عن حقيقة الأمر، إنما كان غزواً لصالح الولايات المتحدة الأميركيّة وممالك وإمارات النفط الخليجيّة. وهو يعالج ديناميكيّة الفشل في العالم العربيّ، يجعل حبكة فهمه في كيفيّة تحوّل النصر إلى فشل وتدمير ذاتيّ، فيتناول أهميّة إنجاز حزب الله في طرد العدو الصهيوني ثمّ الصمود بوجهه، إلّا أنه تأخذه الملاحظة، بأنّه سرعان ما تحوّل الانتصار إلى فتنة وتوتّر بين العرب. وكمحبٍّ للإسلام دعا إلى التفريق بين الإسلام والظواهر السلبيّة التي يرتجف وجدانيّاً حيالها بكلّ ما تستدعيه حفلات القتل والدمار عندما يرفع عليها العلم الإسلاميّ (يقصد ممارسات داعش وأخواتها). واستوقفته حرب اليمن بمنحاها الخطير كعنوان آخر لتدمير ذاتيّ قائم بين العرب مع غياب صارخ لأولئك المطالبين بحقوق الإنسان، مستهجناً انبهار عدد من المثقّفين والإعلاميّين العرب بالمحافظين الأميركيّين الجدد، وتصديقهم مسألة نشر الديموقراطيّة في بلدانهم العربيّة.
يرى قرم أنّ الديموقراطيّة تعرف في عقر دار «الغرب» تقهقراً أكيداً عبر التحالف بين نخب ديموقراطيّة مع أصحاب الأعمال المسيطرين على وسائل الإعلام، ما يجعل الناخب طريدةً سهلةً للأحزاب اليمينيّة والمتعصِّبة. ويتساءل بعد كمٍّ من التجارب الفاشلة، مثل «العولمة» التي أدّت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى الخراب، لماذا يمضي الأوروبيّون والأميركيّون بإصرار عنيد بالتبشير بتحرّر اقتصاديّ أعمى باسم الديموقراطيّة والتقدّم؟ كيف لم يحترسوا بالتواضع قبل إطلاق تعاميمهم السّاذجة، وأفكارهم السطحيّة عن نشر الديموقراطيّة والحريّة بالعنف والقوّة الوحشيّة المباشرة؟؛ ويضيف، لقد أطلقت مفاهيم جديدة، مثل: الحوكمة والشفافيّة، والمحاسبة، والمساءلة، والتنمية المستدامة… بمعزل عن حالة الاستغلال الحقيقيّة التي يتمّ تمجيد تلك المفاهيم لأجلها. وتعمل السياسات الأميركيّة والأوروبيّة على التسبّب بشقاقات عميقة في داخل الدول والشعوب المستهدفة آملة أن يجعلها ذلك أكثر خضوعاً للغرب ولخصوصيّته المدّعاة حصريتها فيسجن المجتمعات في توحّد فلسفيّ وثقافيّ خطير.
هذه عيّنة في بحر مباحث ومواقف الراحل الكبير جورج قرم، وإلى لقاء مع إرثه الجريء بما يخدم النزاهة في معركة الإصلاح، ضمن مقاربة أشمل تستند إلى أولويّة مواجهة الهيمنة الغربيّة ومشاريعها، وتعرية «أسطرة» الغرب واقعيّاً وموضوعيّاً، فلا يقع المرء في فخ الاستلاب الغربيّ أو يرزح تحت سلطته في المعرفة والسياسة والسياسات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى