نقاط على الحروف

نحو تقييم منصف وموضوعي لرد المقاومة

ناصر قنديل

هذا المقال مخصّص للذين يسعون بصدق للوصول إلى تقييم منصف وموضوعي لرد المقاومة على الاعتداء الذي طال الضاحية الجنوبية وانتهى باغتيال القيادي الكبير في المقاومة فؤاد شكر، ويسعون إلى ذلك بعقل بارد طلباً لحجة وتسلسل منطقي، وإدراك مسبق أن الكثير من المعلومات الميدانية يصعب الحصول عليها من مصدر محايد، وهو كذلك موجّه لخصوم المقاومة الذين يقبلون الحجة والمنطق، ويناقشون من موقع المختلف لكن بتهذيب واحترام، وحكماً هو موجّه لمحبي المقاومة الذين لا يرغبون بأن يكونوا من الذين يصفقون بحماسة دون تقديم معادلات تقنع من يناقشونه، ويرفضون أن يكونوا مجرد حالة صخب انفعالية.
الذين يقعون في رأس لائحة الممنوع عليهم قراءة هذا المقال، هم أيتام الوحدة 8200، التي قال حزب الله إنه استهدفها، وهي الوحدة المعنية وفقاً لتعريف مسؤوليتها في المخابرات العسكرية لكيان الاحتلال، بتجنيد عملاء الخمسة نجوم، من سياسيين وإعلاميين وأكاديميين، يتولون خوض حروب الفتن وتشويه السمعة، وفبركة الروايات والتهكم والسباب والشتائم، ولعل أول حجة منطقية تقول لنا بالحدس، إن المقاومة أصابت الوحدة 8200 إصابة بالغة، هو حجم التوحّش في هجوم أيتام هذه الوحدة في شنّ حملات شعواء بذيئة تتسم بالانحطاط والقذارة، وهي أقرب إلى تجشؤ القمامة والعفونة والنتن، وهذا لا تفسّره خصومة سياسية أو شخصية، بل حال انتقام لوقوع كارثة أصابت المؤسسة التي يعمل هؤلاء عندها.
في السعي للوصول إلى تقييم منصف وموضوعي علينا البدء بجمع المعلومات المتفق عليها، من طرفي الصراع، المقاومة والاحتلال، بعيداً عن توصيف وتوظيف هذه المعلومات في سردية كل طرف. ولدينا هنا ثلاث وقائع وردت في رواية حزب الله وفي بيانات هيئة البث الإسرائيلية الرسمية، الأولى هي أن هناك غارات جوية إسرائيلية استهدفت عدداً من منصات الصواريخ العائدة للمقاومة قبل نصف ساعة من بدء عملية المقاومة. والخلاف هو على عدد هذه المنصات وعدد الصواريخ وتوصيف نوعها وما إذا كانت تجوز تسمية الاستهداف بالضربة الاستباقية او الوقائية. أما الواقعة الثانية فهي أن مئات الصواريخ انطلقت من جنوب لبنان نحو مدى يمتد من الحدود إلى عمق أكثر من عشرين كيلومتراً من شمال فلسطين وصولاً إلى خط عكا غرباً وطبريا شرقاً، واستهدفت مواقع عسكرية ومستوطنات، وأسقطت دفاعات الكيان الجوية بعضها، لكن أغلبها وصل. وتبقى الواقعة الثالثة هي الأهم، وهي ما قالته هيئة البث الإسرائيلية الرسمية الساعة السابعة والنصف صباح أمس، قبل أن يعلن حزب الله مكان الهدف النوعيّ الذي استهدفه، عندما صرّحت بأن هناك استهدافاً لمؤسسة استراتيجية في وسط “إسرائيل”.
نبدأ من فرضية الضربة الاستباقية أو الوقائية، وهي تقوم على رواية لا حاجة من أجل نفيها أو إثباتها للدخول في مناقشة العدد الخرافيّ الذي تم تدميره من المنصات والصواريخ. وسردية الضربة الاستباقية تقول إن الرد المصمم من المقاومة كان استهدف تل أبيب وسكانها ومنشآتها المدنية بآلاف الصواريخ، وهذا يفترض أن ينفيه عقلياً خصوم المقاومة الذين يتحدثون صبح ومساء عن حزب الله المردوع الذي لا يريد الذهاب إلى الحرب خوفاً وتخاذلاً، كما ينفيه أهل المقاومة الذين يعرفون ويصدقون كلام المقاومة عن عدم رغبتها بالذهاب إلى الحرب بل سعيها إلى تفاديها، ويسمّون ذلك تدبراً وحكمة وترجمة لاستراتيجية الربح بالنقاط. وقبول رواية الضربة الاستباقية يستدعي من صاحبه تقديم رواية تقول إن حزب الله كان يريد شن حرب تدميرية على الكيان، ومَن يقول ذلك فليرفع يده قبل أن يعلن قبول الرواية الإسرائيلية.
وفقاً لتموضع حزب الله في الحرب والمفهوم الذي يواصل عرضه لدور جبهة الإسناد، تبدو صيغة الرد الأقرب للعقل والمنطق، هي التي قدّمها الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله، أي صواريخ على عمق معقول ضمن المدى الأقصى لما سجل في جبهة الشمال، لكن بأعداد كبيرة، يخلق مناخاً نارياً عاصفاً وإيحاء بأن هذا هو الردّ ويربك الرادارات ويشغل القبة الحديدية ويفتح المجال لعبور الطائرات المسيّرة نحو عمق الكيان، لهدف هو مؤسسة استراتيجية في “وسط إسرائيل”، كما قالت هيئة البث الإسرائيلية الرسمية. وهذا يعني أن الردّ تم بجناحيه، وحققت الصواريخ ما هو مطلوب منها، ووصلت الطائرات المسيرة الى حيث يجب أن تصل، وأن يتم الردّ المصمّم، والأقرب للعقل أنه المصمم، يعني أن لا ضربة استباقية، أو انها تمّت وفشلت، لأنها لم تستطع منع الرد.
هل تجب مناقشة حجم الأذى الذي ألحقه الرد بالمؤسسة الاستراتيجية التي استهدفها؟ أو ما ألحقته الصواريخ بمستوطنات ومقار الاحتلال في شمال فلسطين المحتلة؟ والجواب هو طبعاً إذا توافرت معلومات يمكن البناء عليها، وهذا يبدو صعباً بقدر ما يبدو معقداً حتى الآن، فكيف نستطيع تقييم الرد، بعد أن حسمنا نقطة لصالح المقاومة، وهي أنها نفّذت الردّ الذي صمّمت القيام به والذي يشبه تموضعها وفهمها للحرب، وصار من حقنا طلب استبعاد الرواية التي قدّمها الاحتلال عن ضربة استباقية، حتى لو كان قد دمّر عدداً مجهولاً من منصات الصواريخ والصواريخ، فهو لم يمنع الرد كما كان مصمماً له أن يتمّ، ويستحيل أن يكون من ضمن بنوده تدمير بنى سكنية ومدنية في تل أبيب بآلاف الصواريخ.
الشيء الأكيد هو أن المقاومة اخترقت بعشرات الطائرات المسيّرة خطاً أحمر، هو أجواء تل أبيب، وهذا حدث غير مسبوق من حدود لبنان منذ نشوء الكيان العام 1948، وحتى في ذروة أيام حرب 2006 لم تبلغ صواريخ المقاومة هذا المدى، وقد توقفت الحرب عند مرحلة حيفا وما بعد حيفا، ولم تصل الى ما بعد ما بعد حيفا. والشيء الأكيد أن الاحتلال كان يعلم أن التخلص من القائد فؤاد شكر لن يغيّر مقدرات المقاومة وموازين القوى معها، وأن هدف عمليته هو رمزية إثبات القدرة على الوصول إلى أماكن ورموز ممنوعة ومحصّنة، وتجاوز خطوط حمراء، وهذا ما فعلته المقاومة عملياً، وهو بالمعنى الدقيق مفهوم الصراع على الردع، والمقاومة تظهر أنها غير مردوعة، بعدما أظهر الاحتلال عبر التجرؤ على الضاحية وقائد في المقاومة أنه غير مردوع، فهل يمكن اعتبار المعيار لتقييم الرد هو استكشاف مآل الردع بعد الرد؟
الجواب هو بالتأكيد نعم، فتعالوا ندقق في مفردات الخطاب السياسي للطرفين، ونراقب ما إذا كان ثمة تحوّل أصاب أحد طرفي الصراع أو كليهما، وما هي حدود التغيير وفي أي اتجاه. وهنا نبدأ مع المقاومة، وهي التي تبني خطابها على ثنائية لا نريد الحرب لكننا لا نخشاها، وطالما قالت إنه إذا جاء الاحتلال إلى شنّ حرب فسوف تُريه بأسها وتجعله يدفع الثمن باهظاً، لكنها تؤمن بأن دور جبهة الإسناد التي تقودها ينسجم مع قاعدة الربح بالنقاط، وهي لن تذهب للحرب ابتداء. وبهذا المعنى فإن رد المقاومة يأتي منسجماً مع خطابها، أما على ضفة الكيان، فقد كان لافتاً جداً ومستغرباً جداً ومفاجئاً جداً، أن يخرج كلام مكرر من كل القادة في الكيان يقول نحن لا نريد حرباً ولا نريد تصعيداً وإذا كان حزب الله راضياً عن النتيجة لرده فنحن نعتبر العملية منتهية من جانبنا، الى حد ان مَن يستمع كان يصعب عليه تصديق أن هذا الكلام يصدر عمن كانوا قبل أيام وساعات يهدّدون بشن الحرب على لبنان، ثم يترجمون كلامهم عن الحرب بعنوانين، إعادة لبنان الى العصر الحجري، أي تدمير منشآت لبنان الحيوية، وإعادة حزب الله بالقوة الى ما وراء الليطاني، أي حرب جويّة مدمّرة على العاصمة أو على الأقل ضاحيتها الجنوبية، وحرب برية لاجتياح الجنوب حتى الليطاني، فماذا حدث حتى تغير الخطاب؟ ولماذا لم تذهب قيادة الكيان الى الحرب الموعودة، وقد جاءتها الفرصة الذهبية، حشود أميركية هائلة لمساندتها، وتجاوز حزب الله لخط أحمر كبير، هو دخول طائراته المسيّرة بالعشرات إلى أجواء تل أبيب؟ ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، ففي اليوم التالي يصرح وزير الحرب يوآف غالانت صاحب مواعيد الحرب بعد أسبوع والحرب بعد أسبوعين، ويقول “إن الحرب على حزب الله ستأتي في المستقبل البعيد وليس الآن”، ثم يقوم رئيس أركان جيش الاحتلال بزيارة الى منطقة الشمال ويقول إن جيشه سيواصل ملاحقة حزب الله، لكنه يتجاهل كلياً الحديث عن العصر الحجري وما وراء الليطاني.
المقاومة قبل الرد وبعد الرد تحافظ على وتيرة عالية لجبهة الحدود كجبهة إسناد، وتشكل مصدر قلق عسكري بما تمثل من استنزاف لجيش الاحتلال، وقلق سياسي بما تسببت به من تهجير للمستوطنين، وكان قادة الكيان يراهنون على الحرب أو على التهويل بالحرب لضمان عودة هؤلاء المهجّرين إلى مستوطناتهم قبل الموسم الدراسي، وإذا سقطت الحرب من جدول الأعمال، وقد فشل التهويل بها بدفع المقاومة للتراجع، فقد بقي طريق واحد لوقف الجبهة، هو وقف الحرب في غزة بموجب اتفاق مع المقاومة هناك، فهل هذا هو مغزى الإعلان قبل أن تنتهي مفاعيل الرد عن فتح مطار بن غوريون وإرسال الوفد المفاوض إلى القاهرة؟
مفاعيل الرد على الضفة الإسرائيلية بدأت بإسقاط بند الحرب عن جدول الأعمال كبند واقعي وكمفردة في الحرب الإعلامية والنفسية. وهذا يعني تحقيق وظيفة الردع من طرف المقاومة. وإذا انتظرنا لنكتشف ما هو البديل الذي سوف يشغل مكان مفردة الحرب، وسوف نتحقق أكثر من نتائج الردّ على مستوى الردع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى