انقطاع الكهرباء… بين السياسة والإدارة والخارج والداخل؟
أحمد بهجة*
وضع وزير الطاقة الدكتور وليد فياض إصبعه على الجرح وأصاب قلبَ الحقيقة حين قال الأسبوع الماضي إنّ السبب الرئيسي لانقطاع الكهرباء كلياً في لبنان هو الحصار الأميركي.
كم هو حقيقي هذا الكلام ومعبّر بصدق مطلق عن واقع الحال الذي يحاول البعض نكرانَه في إطار المناكفات والحرتقات السياسية الداخلية، خاصة أنّ أزمة الكهرباء ليست جديدة بل تعود إلى أكثر من ثلاثة عقود، وتحديداً إلى العام 1994 حين بدأ مجلس الوزراء يتدخل في تحديد تعرفة الكيلواط ساعة، علماً أنّ النظام الداخلي لمؤسّسة كهرباء لبنان ينصّ على أنّ المؤسسة هي صاحبة الصلاحية في اتخاذ قرار رفع التعرفة وتتمّ المصادقة عليه من وزير الطاقة وموافقة وزير المال، ولكن لاعتبارات سياسية تدخَّل مجلس الوزراء في العام 1994، وقرّر تثبيت التعرفة عند شطور تبدأ من 138 ليرة للكيلوواط/ ساعة، وقد تسبّب هذا الأمر بوقوع المؤسسة في عجز كبير تراكَمَ على مرّ السنوات لأنّ الكلفة كانت أكبر بكثير من التعرفة، وبقيَ هذا الوضع على حاله حتى العام 2017 حين قرّر مجلس الوزراء رفع التعرفة جزئياً بالتزامن مع البتّ في موضوع استقدام البواخر، ولكن ذلك لم يحلّ المشكلة إذ بقيَت المؤسسة واقعة تحت عجز دائم يحتّم عليها اللجوء إلى السلطة السياسية والمالية لتغطية هذا العجز.
وقد مرّت أزمة الكهرباء بمراحل كثيرة منذ ذلك الوقت حتى اليوم، لكن السمة الغالبة على كلّ ما سبق كانت عرقلة الحلول والحؤول دون تمكّن مؤسسة الكهرباء ووزارة الطاقة من تنفيذ الحلول العلمية التي كان يتمّ التوصّل إليها بالتوافق بين جميع المكونات السياسية، أو على الأقلّ المشاركين في السلطتين التنفيذية والتشريعية، لكن التنفيذ كان يصطدم دائماً بمعوقات ومناكفات لم يكن الخارج بعيداً عنها، لا سيما الخارج الأميركي الذي لا يزال إلى اليوم يمارس شتى أنواع الضغوط بحيث لا يتمكّن المعنيون من حلّ معضلة الكهرباء.
وحتى لا نعود كثيراً إلى الوراء تكفي معرفة تفاصيل ما يجري اليوم لتكوين فكرة واضحة عما حصل في الفترات السابقة، لانّ الأمور متشابهة إلى حدّ بعيد.
طرح الوزير فياض خطة متكاملة على مجلس الوزراء في مطلع العام 2022، ولم يكن قد مضى على تسلّمه منصبه سوى أشهر معدودة. وبعد مناقشات مستفيضة أقرّ مجلس الوزراء الخطة التي تتضمّن تفاصيل تقنية وعلمية كثيرة لكن عمادها الأساسي هو جعل مؤسسة كهرباء لبنان قادرة على تمويل نفسها بنفسها والخروج من أعباء العجز المتراكم، ثم البدء على مراحل متدرّجة بعملية التطوير والتحديث ومواكبة تطورات العصر، لا سيما على صعيد الطاقة البديلة والمتجدّدة.
كانت الخطة تقضي أولاً بأن يعطي مصرف لبنان مؤسسة الكهرباء سلفة بقيمة 600 مليون دولار على ستة أشهر حتى تستورد المؤسسة ما تحتاجه من مادة الفيول لكي ترفع ساعات التغذية في كلّ لبنان إلى 10 ساعات، ومع الفيول العراقي تزيد الساعات إلى 12، وكان يومها أيضاً يجري الحديث عن استيراد الغاز من مصر والكهرباء من الأردن، مما يسمح بوصول ساعات التغذية إلى 15 ساعة.
هذا الأمر يجعل المواطنين قادرين على الاستغناء عن المولدات الخاصة واشتراكاتها العالية الكلفة بشكل لا يُحتمل، لأنّ المولدات لا تزوّد المشتركين بأكثر من 12 ساعة يومياً، وإذا حصلوا على مثلها أو أكثر منها قليلاً بكلفة أقلّ بنحو ستين في المئة، تستطيع المؤسسة عندها رفع التعرفة نسبياً أولاً لكي توقف الخسائر، وثانياً لكي تسدّد تباعاً السلفة التي يُفترض أن تحصل عليها من المصرف المركزي.
حين أتت ساعة التنفيذ لم يستطع لبنان استيراد الغاز من مصر ولا استجرار الكهرباء من الأردن عبر سورية بسبب مفاعيل «قانون قيصر» الأميركي الذي يفرض حصاراً على سورية، علماً أنّ سفيرة الولايات المتحدة في لبنان آنذاك دوروثي شيا هروَلت مسرعة إلى قصر بعبدا ووعدت الرئيس العماد ميشال عون بأنّ هناك إمكانية لتجاوز «قانون قيصر»، وذلك عندما أعلن السيد حسن نصرالله أنّ حزب الله سيبدأ باستيراد المحروقات من إيران بالليرة اللبنانية، وهو العرض الذي لم تستجب له الحكومة بسبب الضغوط الأميركية المعروفة، علماً أنه يوفر على الاقتصاد اللبناني خروج نحو 4 مليارات دولار سنوياً ثمن المحروقات التي يستوردها لبنان من الخارج.
لكن وعد شيا لم يُنفذ حتى اليوم، علماً أنّ الوزير فياض تابع الأمر وزار مصر والأردن أكثر من مرة ووقّع اتفاقيات شارك فيها أيضاً نظيره السوري، ولا تزال الاتفاقيات قابلة للتنفيذ في أيّ وقت، وتحتاج فقط إلى قرار جريء من الحكومة اللبنانية أو حتى التلويح بإمكانية استيراد الغاز من إيران أو من روسيا أو من أيّ مصدر آخر قد يحلّ المشكلة، بل يكفي التلويح بذلك، أو يكفي أن يضع مجلس الوزراء على جدول أعماله البحث في قبول الهبة الإيرانية ببناء معملين لإنتاج الكهرباء بقدرة ألف ميغاواط لكلّ منهما، والبحث في العرض الروسي لإقامة مصفاة لتكرير النفط في لبنان وتزويده مجاناً بالكميات اللازمة من الفيول لتشغيل المعامل القائمة، يكفي ذلك حتى تهرول السفيرة الأميركية الحالية ليزا جومسون إلى المسؤولين وتبلغهم الموافقة على كلّ طلباتهم.
لم يقتصر الأمر على العرقلة الأميركية، بل امتدّ إلى الداخل أيضاً إذ رفض الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة إعطاء سلفة لمؤسسة الكهرباء بقيمة 600 مليون دولار لستة أشهر، خلافاً لقرار مجلس الوزراء، وقرّر من «عنديّاته» تخفيض المبلغ إلى 300 مليون دولار والمدة إلى ثلاثة أشهر، مما أفرغ الخطة من مضمونها لأنّ ذلك يعني تنفيذ نصف الخطة أيّ جعل التغذية تقتصر على ستّ ساعات فقط، وهذا لا يُغني المواطنين عن المولدات وفواتيرها العالية، ويجعل فاتورة الكهرباء من المؤسسة عالية أيضاً بعد زيادة التعرفة، الأمر الذي تعالَت معه صرخات الناس، وهذا ما يريده بالضبط أولئك الذين يريدون استمرار الضغط على لبنان في إطار المحاولات الدائمة لفرض شروط على لبنان يتعلق معظمها بالحصول على تنازلات من المقاومة.
المهمّ أنّ الوزير فياض لا يستسلم رغم كلّ الضغوط والحملات، وبالأمس ذهب إلى القضاء ومعه إدارة مؤسسة الكهرباء لوضع النقاط على الحروف، خاصة أنه كان تنبّه للأمر منذ حزيران الماضي لكن مجلس الوزراء لم يأخذ باقتراحات الحلول التي بعثها إليه الوزير حتى لا يصل البلد إلى العتمة.
وتابع الوزير العمل المكثف لتأمين وصول الفيول العراقي، وكذلك الهبة الجزائرية المشكورة والغير مشروطة، وأيضاً عقد اجتماعات متواصلة مع رئيس الحكومة ومسؤولي البنك الدولي لاستكمال برنامج تمويل المشروع المتعلق بالطاقة المتجدّدة وتدعيم أنظمة كهرباء لبنان، وهو المشروع الذي ناقشه الوزير فياض أيضاً مع المدير التنفيذي لشركة «ماكس باور» محمد حمزة في اجتماع مطوّل شاركتُ فيه، حيث جرى البحث في أهمية الاستثمار في مشاريع الطاقة البديلة والمتجدّدة، والتي تؤدّي إلى توفّر الكهرباء بتكلفة منخفضة بحدود 65% من الفاتورة الحالية بحلول العام 2030، وتخفيض التكاليف التشغيلية بحدود 30% من كلفة الإنتاج في القطاعات الصناعية والخدماتية، مما يساهم في رفع معدلات النمو الاقتصادي بنسبة 5%.
*خبير مالي واقتصادي