أخطاء خطيرة… لكنها شائعة
ناصر قنديل
– سوف نحاول في هذا المقال فحص مقولتين شديدتي الرواج والانتشار، ونسمع تردّدهما في الكثير من التحليلات والمواقف لشخصيات محترمة ينتمي الكثير منها إلى مساحة ثقافيّة وسياسيّة قريبة من المقاومة، ومدافعة عن خياراتها. المقولة الأولى تُعيد استمرار الحرب وتعثّر التوصل إلى اتفاق حول غزة، إلى تصلّب نتنياهو الذي «يعرف أن نهاية الحرب هي نهايته السياسية والشخصية، لأنه عندما تتوقف الحرب سيسقط نتنياهو من المشهد السياسيّ والأرجح أنه سوف يذهب إلى السجن». أما المقولة الثانية فقد ترافق المقولة الأولى أو تأتي منفصلة عنها، لكنها ليست مناقضة لها، ومحورها القول «إن نتنياهو يريد إطالة أمد الحرب حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية الأميركية لأنه لا يريد أن يقدّم هديّة انتخابيّة للحزب الديمقراطي والرئيس جو بايدن، وعندما يريد فعل ذلك فهو سيفعل لصالح المرشح الرئاسيّ الرئيس السابق دونالد ترامب، وهو يراهن على وصول ترامب لقلب المشهد واستئناف الحرب».
– فحص المقولتين لا يعني القول بأنهما غير صحيحتين. فالشيء الأكيد هو أن نتنياهو سوف يواجه وضعاً مختلفاً عن الوضع الحالي مع نهاية الحرب، وربما تكون نهايته السياسية وربما يكون وضعه القضائي صعباً، وكذلك لا مشكلة في الاعتقاد أن نتنياهو يفضل وصول ترامب إلى البيت الأبيض على فوز الديمقراطيين، ويحاول مساعدة ترامب وتعقيد الفوز الديمقراطي، لكن النقاش يهدف الى الدعوة للتدقيق في حجم تأثير هذه العوامل التي نعتقد أنها هامشيّة في صناعة المشهد السياسي والعسكري، ونعتقد أن جعلها محور التحليل يؤدي إلى الوقوع بأخطاء خطيرة، عبر تجاهل الحقائق الكبرى الحاكمة لصناعة السياسات، وبالتالي ربط المواقف بمحاكاة سراب أوهام وبناء معادلات عليها.
– نبدأ من ربط تصلّب تعنت نتنياهو بمصيره السياسي والشخصي. وهنا نسأل إذا كان هذا الربط صحيحاً، فكيف نفسّر نجاح نتنياهو بالحفاظ على تماسك حكومته ومن ورائها كتلة الأغلبية في الكنيست اللازمة لبقائها في الحكم، رغم محاولات معارضيه فعل المستحيل لاستمالة نائب واحد للخروج من الائتلاف الحاكم، بما في ذلك محاولات عضو مجلس الحرب المستقيل بني غانتس لفعل ذلك والفشل في تحقيق أي اختراق، حتى اضطر للخروج وحيداً مع زميله غادي ايزنكوت؟ أليس هذا التماسك لكتلة سياسية ضخمة في الكيان نجحت بنيل الأغلبية في الكنيست هو ثمرة لتحوّلات أصابت بنية الكيان الثقافية والسياسية وبنيته الديمغرافية، أعلت شأن المستوطنين ونقلت مركز الثقل السياسيّ فيه لصالح الكتلة الفاشية الدينية والقومية، على حساب اليمين العلماني المدني والعسكري، كما ظهر قبل سنة في معركة التعديلات على النظام القضائيّ، وأن نتنياهو يمثل الرمز السياسيّ الأول لهذا التحوّل، الذي يجاهر بمضمون خطابه السياسي، نتنياهو وسائر رموز التيار الحاكم، وفق عناوين سابقة ولاحقة للحرب، جوهرها لا تسوية مع الفلسطينيين، لا لحل الدولتين، القدس موحّدة جزء من الكيان، والاستيطان استراتيجية مفتوحة بلا توقف ولا تراجع، والسلاح هو اللغة الوحيدة مع قوى المقاومة، ولا مشكلة أن يؤدي هذا الخطاب الى الانفصال عن المشروع الغربي، الذي سوف يجد نفسه ملزماً بالدفاع عن الكيان لأن مستقبل الغرب في هذه المنطقة الحيوية والاستراتيجية لا يمكن فصله عن بقاء الكيان والحفاظ على قوته.
– تجب الملاحظة هنا أن إمساك نتنياهو وحلفائه بزمام المبادرة في قيادة الحياة السياسيّة في الكيان، والموقف من استمرار الحرب جزء منها، ينجح بجرّ المؤسسة العسكرية والمؤسسات الأمنية إلى خيارات نتنياهو وحلفائه، ليس لعدم وجود أدوات ضغط بيد الجيش والمؤسسات الأمنية، وليس لأن قادة هذه المؤسسات لا يدركون أن الكيان يتداعى عسكرياً وأمنياً بين أيديهم بفعل استمرار حرب لا طاقة له على المضي بها قدماً، بل لأن الحقيقة العميقة هي أن لا خطاب بديلاً من القضايا الجوهريّة يستطيع هذا اليمين العلماني تقديمها. ومن اللافت كيف يقف اليمين المدني والعسكري العلماني فاغراً فمه، في مواجهة نتنياهو وحلفائه، يردّد الخطاب ذاته والخيارات الفاشية ذاتها التي يطلقها اليمين الديني والقومي تجاه القضايا الرئيسية التي تطال القضية الفلسطينية، لكنه يدعو الى تجزئة الحروب بما يتناسب مع جهوزيّة الغرب لخوضها، على قاعدة الحرص على أن يبقى الكيان سياسياً وثقافياً وعسكرياً جزءاً من الغرب لا ينفصل عنه وإلا دخل منطقة الخطر؛ أما إن صح وجود اعتبارات تتصل بالمصير السياسي والشخصي فهي تصحّ في حالة قادة المؤسسات الأمنية والعسكرية الذين يخشون المساءلة عن الفشل الكبير يوم الطوفان ويتمسّكون بالاختباء وراء نتنياهو، وفق معادلة أنهم ينفذون تعليمات الحكومة.
– في مناقشة المقولة الثانية عن ربط ما يُسمّى مماطلة نتنياهو بالتوصل الى اتفاق خدمة لوصول ترامب إلى البيت الأبيض من جهة، ورهاناً على نتائج هذا الوصول من جهة موازية، لا نناقش المشاعر والعواطف والرغبات الشخصية لنتنياهو، بل القيمة السياسية لكل هذه الرغبات والعواطف. فهل نحن أمام جهوزية نتنياهو والتيار الذي يمثله في الكيان وفي الحكم، وكل ما يحدث هو التحكم بتأجيل الاتفاق، ونظرية تأجيل الاتفاق تتعارض أصلاً مع نظرية الرهان على وصول ترامب لمواصلة الحرب بزخم جديد. فهل سبب عدم الفوز بالحرب حتى الآن هو أن ما تقدّمه إدارة بايدن غير كافٍ للفوز بها، سواء لأن إدارة بايدن لا تقدم المساعدة المالية والعسكرية اللازمة، أو لأنها تمارس الضغوط لمنع حكومة الاحتلال من تحقيق انتصاراتها في الحرب، وعندما يصل ترامب سوف تنال منه ما تريد. والتدقيق البسيط في ظروف ومعطيات الحديث عن فرضيّة اتفاق يؤجل نتنياهو قبوله ليهديه إلى ترامب، يجب أن نسأل عن أي اتفاق نتحدث، اتفاق يلبي شروط المقاومة، أم اتفاق يحقق لنتنياهو طلباته؟ وهل نتخيّل أن يقبل نتنياهو بشروط المقاومة فقط ليهدي الاتفاق لترامب؟ أليست هذه قمة السذاجة والسطحية بل الهبل؛ أما إذا كان القصد هو اتفاق بشروط نتنياهو، فهل تقف واشنطن بقيادة بايدن عائقاً أمام نتنياهو لانتزاع موافقة المقاومة عليها، أم هي عامل مساعد دائم، تتبنّى بالتدرج طلبات نتنياهو وتحاول تسويقها والضغط على المقاومة لقبولها؟ وكم مرة خرجت إدارة بايدن تقول إن الكرة في ملعب حماس وعليها إعلان الموافقة؟
– أما عن رهان الحرب إذا وصل ترامب، فتعالوا ندقق بما يمكن أن يقدّمه ترامب لنتنياهو مما يحجبه بايدن عنه، وأداة القياس بسيطة وهي سلوك ترامب خلال ولايته الرئاسيّة تجاه كيفيّة التدخل في حروب المنطقة، التي ترتبط كلها في نهاية المطاف بأمن الكيان، وسوف نكتشف صحّة ما يقوله بايدن بأن التاريخ سوف يسجل أن إدارته قدمت للكيان ما لم ولن تقدّمه أي إدارة أميركية سابقة أو لاحقة. ولعلنا نتذكر كيف أن إدارة ترامب تهرّبت من حشد قواتها وأساطيلها سواء لتغيير اتجاه المواجهة مع إيران وقوى المقاومة، سواء يوم أسقطت إيران طائرة الاستطلاع الأميركية العملاقة في 20 حزيران 2019، ثم يوم هجوم أرامكو الذي شنّه أنصار الله في 14 أيلول 2019، ويجب أن نتذكر كيف تعاملت إدارة ترامب مع الحرب الدائرة في سورية بين عامي 2016 و2020، حيث كانت الهجمات الكبرى التي شنتها سورية مدعومة من حلفائها في روسيا وإيران وحزب الله وانتهت باستعادة أغلب المناطق تحت سيطرة الجماعات المدعومة من واشنطن، وخلال هذه الفترة يقول الأميركيّون والإسرائيليون إن حزب الله بنى ترسانته من الصواريخ الدقيقة الكاسرة للتوازن؟
– إن سقف ما تستطيع واشنطن في ظل أي إدارة تقديمه للكيان هو ما تقدمه إدارة بايدن، عبر سخاء التمويل وتقديم أحدث أنواع السلاح وكميات هائلة من الذخائر المتعددة الأنواع، وحشد القوات والأساطيل لتقديم المساعدة بوجه أي استهداف، وتوفير الحماية الدبلوماسية والقانونية بوجه أي مسعى للإدانة أو المساءلة، وما لا تقدّمه هو فقط دماء الجنود الأميركيين، وهو ما لن تجرؤ أي إدارة أخرى على تقييمه، كما تقول ولاية ترامب السابقة، يبقى أن ترامب مستعدّ أن يعترف لنتنياهو بضمّ أي أرض عربيّة يريدها، وهو ما قد لا يفعله بايدن، لأنه صهيونيّ معنيّ بمستقبل الكيان، ويخشى عليه من غباء قادته، ومعادلة حلّ الدولتين عند بايدن هي لن ينتصر الكيان إذا توحّد الفلسطينيون والعرب بوجهه، ويكفي التلويح بحل الدولتين والحديث عنه دون السير بخطوات عملية مزعجة للكيان، وذلك وحده يُقسم صفوفهم ويجعلهم يقاتلون بعضهم بعضاً.
– هي حرب أميركية إسرائيلية، يعنينا فهم تناقضات صفوف الجبهة المقابلة لنا فيها، لكن يعنينا أكثر عدم الوقوع في الأوهام حولها.