أكبر فشل أميركي سياسي واقتصادي وعسكري
ناصر قنديل
لا يستطيع خطاب المرشح الرئاسي الجمهوري والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الادعاء بأنه يملك مفاتيح لوقف التدهور المتمادي الذي تعيشه أميركا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وقد سبق له أن تولى الرئاسة لولاية كاملة ولم يستطع إثبات قدرته على تغيير الاتجاه، ولا تستطيع نائبة الرئيس والمرشحة الرئاسية الديمقراطية كمالا هاريس الادعاء بأن هذا التراجع المتمادي في وضع أميركا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً هو أمر ظرفي يمكن السيطرة عليه، إذ تكفي مراقبة ما يجري على الساحة الدولية والعجز الأميركي عن إدارة أزمات بحجم حرب أوكرانيا وحرب غزة، والعجز عن دعم خيار الفوز بالحرب بالنسبة للحليف والعجز عن صناعة التسوية من وجهة نظر العالم والإقليم المعني بالحرب مباشرة، وتكفي رؤية الهروب الأميركي من التورّط في حرب أوكرانيا والانكفاء العسكري من البحر الأحمر لمعرفة حدود القدرة الأميركية العسكرية على تغيير اتجاهات الحروب، وتآكل قدرة الردع الأميركية، ويكفي التوقف أمام انهيارات الأسهم التي تهزّ وول ستريت لإدراك حجم التحديات البنيوية التي لا تملك السياسة قدرة التأثير السريع فيها، سياسة ترامب أو سياسة هاريس.
تحولت حرب أوكرانيا، بما في ذلك ما يجري تحت عنوان هجمات أوكرانية معاكسة إلى حرب استنزاف تملك روسيا قدرة إدارتها وتحمل تبعاتها واحتواء تداعياتها، ولا تبدو موسكو مستعجلة للذهاب الى خيارات حاسمة فيها، لأن هذه الحرب تستهلك مقدرات أوكرانيا البشرية وتظهر محدودية تأثير الإمدادات الأميركية والغربية على إحداث تحول في مسار الحرب، وشيئاً فشيئاً يجد الناتو ومن خلفه واشنطن أن التورّط في الحرب يزداد، ولكن الفشل بالمقابل يزداد وضوحاً، مقابل انكفاء الغرب كله وخصوصاً واشنطن عن خيار التفاوض، حتى يصبح هذا الخيار مدخلاً وحيداً للخروج من المأزق، لكن التفاوض لكن يكون حول أوكرانيا فقط. وبالتوازي تتحوّل حرب غزة إلى حرب استنزاف سياسية وعسكرية تكشف محدودية الدور الأميركي أمام توحش الآلة الحربية الإسرائيلية التي فقدت كل تأييد أو دعم على مساحة العالم، بينما لا يقدم الدعم العسكري الأميركي لكيان الاحتلال ما يكفي لاسترداد زمام المبادرة، بل لمواصلة قتل النساء والأطفال واستخدام قتلهم أداة للضغط على المفاوضات، حتى وصل الأمر بوزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن أن يدعو حماس للموافقة على مقترح أميركي تبنى رؤية بنيامين نتنياهو تحت شعار هذا هو الطريق الوحيد لوقف القتل ودخول المساعدات، مجسداً حرفياً ما تضمنته تعريفات القانون الدولي للإرهاب، بصفته تعريض حياة المدنيين للخطر لتحقيق أهداف سياسية.
لا يقنع كلام دونالد ترامب القائم على العنتريات أحداً، كمثل القول لو كنت رئيساً لما وقعت حرب أوكرانيا ولا وقع طوفان الأقصى، وقد رآه الأميركيون عاجزاً عن فعل شيء تجاه خسارة حرب سورية، والتحديات التي ظهرت في الخليج مع إسقاط إيران لطائرة تجسس أميركية عملاقة، وهجمات أنصار الله على منشآت أرامكو، ولا تملك كمالا هاريس جرأة الحديث عن نموذج أفغانستان كمنهج قابل للتعميم حيث الهروب من المواجهة يصبح الطريق الوحيد لإنهاء الحرب، فتتحوّل أميركا في الحالتين الى قوة ضخمة مشلولة، لأن المطلوب للمناورات العسكرية والسياسية قوى صغيرة الحجم، كمثل المناورات البحرية بين زوارق سريعة وحاملات طائرات ضخمة.
التراجع الأميركي خط بياني تصاعدي لا توقفه السياسات التي يتبارى حولها ترامب وهاريس، وما شهده سوق الأسهم هو خير جواب يقدّمه السوق على درجة الثقة بالسياسة، لكن هذا التراجع عندما يجتمع مع الغباء السياسي والعجز عن اتخاذ خيارات واقعية تعترف بصورة مبكرة بحجم التحولات الجديدة الناجمة عن صعود قوى جديدة في العالم، وعن وجود أزمات لا يمكن حلها بالرهان على التذاكي وعرض العضلات وتبني التوحش والعدوان والإجرام، كحال التعامل الأميركي مع القضية الفلسطينية، تكون النتيجة أن يدخل العالم حروب استنزاف طويلة، حيث يصبح وقف الحروب وفرض وقائع جديدة رهن استعداد الكتل البشرية التي يستخدمها الأميركيون في لعبتهم الدولية للتمرّد والخروج من الملعب، ولذلك تصبح قيمة المشاهد الآتية من أوكرانيا عن حالات التمرد ضد التجنيد القسري ذات قيمة سياسية، كما تصبح التظاهرات التي تملأ شوارع القدس المحتلة وشوارع مدن فلسطين المحتلة من حشود ترفض دفع فواتير الحرب التي يتمسك بنيامين نتنياهو بالمضي في تصعيدها، ذات قيمة سياسية، لكن هذا يلقي على عاتق الذين يواجهون مسؤولية المزيد من الصمود والمقاومة وخوض الحرب بذكاء لا يشعل معها فتيل حروب كبرى تقمع هذه الأصوات وتقوم بطمسها، ولا تقوم بتخفيف وتيرة الحرب الى حد أن تنطفئ شعلتها وتقف الضغوط التي تخرج هذه الاحتجاجات إلى العلن.
الأكيد أن خطر انتصار القوى المدعومة من واشنطن ليس على جدول الأعمال، لكن إلحاق الهزيمة بهذا المشروع لم يعد بعيداً، لأن التراجع الأميركي ليس ظرفياً ولا محدود المجال والاتجاه، إنه أفول إمبراطورية عظمى، والسقوط سوف يكون مدوياً بالضرورة.