سلام لبيروت من غزة النازفة…
شيماء ناصر الدرة
من قلب غزة ومن رحى المواجهات والقتال وغبار المعارك، ومن قلب معاناة شعبنا المجاهد الصابر الثابت، نرسل لكم سلاماً في هذه اللحظات الفارقة في تاريخ الأمة وخذلان البعيد والقريب، فهذا العدو المذعور في شوارع قطاع غزة وأزقته، وكما وصفه سماحة الأمين العام السيد حسن نصرالله حفظه الله، بأنه أوهن من بيت العنكبوت.
بين المقاومة في لبنان والمقاومة في فلسطين علاقة توأمة يستحيل فصلها، هي علاقة رسمتها الجغرافيا وأحتضنها التاريخ، ووحّدها المصير المشترك، فهل من معركة ضدّ الاستعمار والاحتلال إلا وكانوا في خندق واحد.
فمن مدرسة المقاومة الفلسطينية تخرّج العديد من روّاد المقاومة اللبنانية، الوطنية والقومية والإسلامية، كما نشأ على وهج المقاومة اللبنانية قادة فلسطينيون يدركون عظمة لبنان ودوره في احتضان قضيتهم أولاً، ثم مقاومتهم، ثم انتفاضاتهم المتواصلة حتى اليوم…
لم يترك غزة وحدها، منذ الثامن من أكتوبر، قامت القوات التي يقودها الأمين العام السيد حسن نصرالله بمهاجمة المواقع العسكرية «الإسرائيلية» على طول الحدود بشكل يومي، أنتم والله نعم الإخوة ونعم السند ونعم الرجال الأوفياء ونعم المقاومة الصادقة المخلصة.
أكثر من عشرة شهور ونحن نرى جهادكم وصبركم وتضحياتكم بأعز ما لديكم في نزال هذا العدو الذي يخشى مواجهتكم. هذا العدو الأحمق المهزوم الغارق في وحل غزة، الذي يستجدي في كلّ يوم قيادته للهروب والنجاة من ضربات مجاهدينا وكمائنهم التي شيّبت رؤوس الضباط والجنود الصهاينة، كيف له أن يواجهكم ويقاتلكم!!
فتحت نصرة ومساندة المقاومة في الجنوب اللبناني لشقيقتها المقاومة الفلسطينية في غزة، الأبواب على مصارعها للدخول إلى عمق السنين الستة والسبعين المنصرمة على سقوط فلسطين، بل إلى ما قبل ذلك ربما.
رأى أبناء الجنوب أنفسهم مشدودين إلى جيرانهم واخوانهم الفلسطينيين، فكان يُفرِحهم ما يُفرِح الفلسطيني، ويؤلمهم ما يؤلمه. وهكذا وعشية سقوط فلسطين، أخذتهم الحمية لنصرتهم، حتى قبل العام 1948 عام النكبة، وما المجازر التي حصلت في حولا وفي أكثر من بلدة وقرية لبنانية حدودية إلا شاهد على ذلك.
سقطت فلسطين في أيار سنة 1948، وسقطت معها أجزاء واسعة من بلدات وقرى الجنوب الحدودية، وضمّها الصهاينة، ومنها القرى السبع، إلى الكيان، ما زاد الجنوبيين حمية على مقارعة الصهاينة، وهم أدركوا منذ زمن بعيد، انّ ساحة فلسطين وساحتهم واحدة.
سقطت فلسطين، وانطلق العمل الفلسطيني المسلح، وبدأت العمليات الفلسطينية ضدّ الصهاينة، تلك العمليات التي لم يسمِّها يوماً أهل الجنوب إلا العمليات الفدائية. ولعلّ الجنوبيين كانوا سباقين إلى إطلاق لقب الفدائي على المقاوم الفلسطيني، الذي ما وجد في بيوت الجنوبيين عامة، وأهل الشريط الحدودي خاصة، إلا الحصن والحضن والظهر المنيع والآمن والحامي.
دارت الأيام، ومعها الشهور والسنين ونما العمل الفلسطيني المقاوم، ونمت معه نصرة الجنوبيين، الذين سرعان ما أصبحوا جزءاً أساسياً من العمل الفلسطيني المسلح، وقدّموا مئات الشهداء، حتى غدت كلّ قرية جنوبية تحتضن في ترابها العشرات، بل أكثر من الشهداء، الذي قضوا في عمليات بطولية. وما زالت تلال مارون الراس وشلعبون وصفّ الهوا في بنت جبيل، وكذا رب ثلاتين والطيبة وكفرشوبا، ما زالت هذه وغيرها شاهدة على بطولات وتضحيات.
ويتذكر اللبنانيون جيداً كيف أنهم احتضنوا وما زالوا إلى اليوم القضية الفلسطينية، وكيف أنهم يدفعون ثمن الولاء لها من خلال التهديدات المباشرة وغير المباشرة التي يتوعّد بها جيش الاحتلال الإسرائيلي المقاومة ومن خلفها لبنان.
اللبنانيون قاتلوا جيش الاحتلال «الإسرائيلي» وهزموه في كلّ مواجهة: في البربير، في خلدة، في الجبل، في الإقليم، في صيدا، في الجنوب، حتى جنوب الجنوب، كانت بيروت غزة لبنانية ولم ترفع الأعلام البيضاء، ولم تستسلم…
يتذكر اللبنانيون أبا عمار وأبا جهاد وحسن سلامة وغسان كنفاني جيداً، فهم احتضنوهم بعد الانتقال القسري للمقاومة الفلسطينية من الأردن واستقرارهم في لبنان، ففي مخيمات لبنان وجدت المقاومة الملجأ، وضربت الحاضنة الشعبية أروع الأمثلة في الصمود أمام العدو «الإسرائيلي»، وتواصلت الغارات والقصف العنيف على المخيمات دون توقف خلال مرحلة تموضع قوات الثورة الفلسطينية في لبنان، وكان أشدّه عدوانية ووحشية في اجتياح العام 1982، الذي أعقبه مجزرة صبرا وشاتيلا، رغم ذلك بقيَت مخيمات لبنان حصون منيعة وفية للمقاومة.
بيروت الفلسطينية هي بيروت التي مشت عن بكرة أبيها، بجميع اتجاهاتها، يمينها ويسارها، وبزعاماتها التقليدية وقياداتها التقدمية كلها، لتشيّع شهداء نيسان/ أبريل 1974 الثلاثة: كمال ناصر، وكمال عدوان، وأبو يوسف النجار، في موكب مهيب لم تشهد بيروت مثله لا من قبل ولا من بعد.
بيروت الفلسطينية هي التي نثرت نساؤها الجميلات الورد والأرزّ على المناضلين الذين قاتلوا دفاعاً عنها في وجه الاجتياح الصهيوني لها، وهي التي وقف شيبها وشبانها على أرصفة الطرقات يلوّحون لهم بأيديهم، ويهتفون لهم بحناجرهم، ويحتفظون بهم في قلوبهم، وهم في طريقهم إلى مرفئها الشاهد على دمارها المتجدّد.
بيروت الفلسطينية مظاهرها لا تُحصى، وجذورها تمتدّ إلى الرعيل الأول من الطلبة العرب الذين درسوا في جامعاتها؛ إلى مصطفى أرشيد الذي سار مع أنطون سعاده مؤسّس الحزب السوري القومي الاجتماعي وترأّس الحزب في مرحلة لاحقة، وجورج حبش، ووديع حداد، وصلاح الدباغ، وأحمد الخطيب، وقسطنطين زريق، ومحسن إبراهيم، ومحمد كشلي، وغسان كنفاني، في بدايات تشكيل حركة القوميين العرب بعد النكبة؛ وتوفيق حوري، وهاني فاخوري، حين أشرفا على تأسيس مجلة «فلسطيننا – نداء الحياة» وإصدارها من بيروت، في سنة 1959، لتكون صوتاً ناطقاً بأفكار حركة «فتح» في إرهاصاتها الأولى، مع خليل الوزير.
بيروت الكتّاب والأدباء في الصحافة اللبنانية كلها، الذين حملوا همّ فلسطين منذ نكبتها، ودافعوا عنها بالقلم والدم، هي ذاتها بيروت شارل الحلو، وموريس الجميّل، ووداد قرطاس، ونجلاء فخر الدين، وفؤاد صروف، ونبيه أمين فارس، وسعيد حمادة، الذين أسّسوا مؤسسة الدراسات الفلسطينية، مع قسطنطين زريق، ووليد الخالدي، وبرهان الدجاني، في سنة 1963، لتكون المؤسسة البحثية الأولى من نوعها في العالم العربي. ثم في سنة 1964، تأسّس مركز الأبحاث الفلسطيني الذي ترأسه يوسف صايغ في بداياته، والذي حاول الصهيونيون تفجيره بسيارة مفخخة، ثم نهبوا محتويات المركز، في محاولة منهم لعزل بيروت عن قضيتها.
نحن نحب لبنان وكل ما فيها من الجليل شمالاً حتى أم الرشراش جنوباً، كما نحبّ لبنان الذي أنجب القادة والمناضلين والعلماء، منه تعلّمنا أنّ طريق المناضلين لن ولم تكن يوماً إلا حقل أشواك وليست مفروشة بالورود، وانّ ما أخذ بالقوة لا يُستردّ إلا بالقوة، كما أكد الأمين العام السيد حسن نصر الله «جيش الاحتلال الإسرائيلي لم يندحر من لبنان عام 82 بالديبلوماسية وإنما إندحر بالمقاومة، كما لن يندحر من غزة وفلسطين بالديبلوماسية وإنما بالمقاومة. نحن كأمة لا خيار لنا سوى المقاومة، لا نملك سوى المقاومة، لا شيء يمكن أن نراهن عليه سوى المقاومة».