ماذا يعني تحوّل الأردن إلى مصدر قلق للكيان؟
ناصر قنديل
على مدى شهر كامل وخلال أربع حلقات تضمّنت ست عشر ورقة بحثيّة ناقشنا في منتدى التفكير الاستراتيجيّ في حزيران الماضي الوضع في الضفة الغربية وخلصنا إلى معادلة هي “الضفة الغربية بيضة القبان في الصراع مع الكيان والوضع في الأردن هو بيضة القبان في مستقبل الضفة”. وتوّجت الأبحاث بخلاصتين، الأولى أن التوصل إلى اتفاق تبادل للأسرى يُعيد القادة الأسرى إلى الضفة الغربية يشكّل مدخلاً لتحوّل نوعيّ في موازين القوى السياسية والميدانية في توازنات الضفة، والثانية أن مستقبل قوات الاحتلال الأميركيّ في سورية والعراق يقرّر مستقبل التموضع الأردني الرسمي ودرجة انخراطه في خطط حماية الكيان. وكان المشترك في كل أوراق العمل والخلاصات أن استمرار المجازر في غزة قد نجح في إنتاج شارع حاضر ومتفاعل مع غزة في الأردن، بعدما نجح في حل معضلة العلاقة بين التيارين الوطني والإسلامي وعالج الانقسام الموروث بينهما، خصوصاً على خلفية الموقف من الحرب على سورية، بينما لا تزال مصر أسيرة هذا الانقسام على خلفيّة الانقسام حول مرحلة الإخوان المسلمين في الحكم، وأن هذا النجاح الأردني في التعافي من الانقسامات سيفاجئنا بقدرته على إنتاج ما يغيّر البيئة المحيطة بالحرب.
أظهرت البحوث التي تمّ عرضها حجم التداخل الأردني الفلسطيني، كما أظهرت زيف المزاعم حول مخاطر فتنة بين الفلسطينيين والأردنيين، حيث يقول تاريخ الأردن وحاضره إن تفاعل الأردنيين لا يقلّ عن تفاعل الفلسطينيين بل ربما يزيد عن بعض شرائحهم المرتبطة بالسلطة الفلسطينية، والمؤثرة في المناخ الوطني والقومي. كما تداولت الدراسات إحاطة بتاريخ التداخل السياسي والعسكري والأمني بين الأردن وفلسطين منذ ما قبل الهجرة الصهيونيّة ومرحلة الانتداب البريطانيّ وصولاً إلى تاريخ نشوء الكيان. وتوقف بعض الدراسات أمام عناصر التعقيد التي تحيط بعلاقة النظام السياسي بالمركز الأميركي والكيان، وهشاشة الوضع الأردني أمام مخاطر مشروع التهجير الذي يستهدف الفلسطينيين في الضفة الغربية ويستهدف النظام الأردني بصفته الوطن البديل، بحيث إن الصورة الإجمالية للمشهد لا تستطيع تجاهل مفاجآت أردنية تفرض حضورها، كما كانت معركة الكرامة التي شكلت مفاجأة غيّرت اتجاه الأحداث والتوازنات.
في هذا السياق تقع العملية البطولية المدروسة والناجحة للشهيد الأردني ماهر الجازي ابن عشيرة الحويطات التي تتخذ من محافظة معان مركزاً لها، والتي أنجبت قادة في مسيرة فلسطين، وينتسب ماهر الجازي الى جدّه الشيخ هارون الجازي الحويطي الذي كان قائد سريّة الحويطات في معركة القدس وفي معركة القسطل ومعارك باب الواد واللطرون ووضع مع الشيخ الشهيد عبد القادر الحسيني خطة معركة القسطل. ومن هذه العشيرة أيضاً، اللواء مشهور حديثة الجازي، القائد الأبرز في معركة الكرامة عام 1968، وهو يُعَدّ حفيد الحاج هارون، وتتلمذ على يديه، وورث حبّه لفلسطين وإخلاصه للنضال والمقاومة من جدّه هارون.
لا خلفية حزبية منظمة لعملية الكرامة التي نفّذها الشهيد ماهر الجازي، وبالتالي هي تعبير قابل للتكرار عن ظاهرة الأسود المنفردة التي عانى مثلها الكيان في الضفة الغربية قبل سنوات ولا يزال، مواطنون أفراد يخطّطون في سرّهم وحدَهم لعمليّة يُستشهدَون في ختامها، لكنهم يتسببون عبرها بأذى غير قابل للردّ ولا يمكن للعمل الأمني توقعه أو استباق حدوثه. وأهم ما تقوله لنا الحدود الأردنية الفلسطينية وفقاً لتاريخها بين عامي 1967 و1970، أنها غير قابلة للسيطرة بامتداد على طول 360 كلم، محاطة بمناطق قليلة السكان من الطرفين الشرقي والغربي، يمكنها تشكيل خلفية لتهريب الأسلحة والذخائر عبر مجموعات صغيرة سيراً على الأقدام، كما يمكن التسلل عبرها لتنفيذ عمليّات فدائية بنصب كمائن لدوريات الاحتلال أو الإغارة على مواقعه الضعيفة المنفردة، ما سيفرض حكماً على جيش الاحتلال في ضوء الإنذار الذي مثلته عمليّة الكرامة أن يلجأ إلى إجراءات حماية لا يمكن تحقيقها بأقلّ من نشر فرقتين عسكريتين على خط الجبهة، سوف يُضطر إلى سحبها من جبهات غزة ولبنان والضفة، وصرف النظر عن أعمال ومشاريع عسكرية في هذه الجبهات، كان يتوقف تنفيذها على استخدام هذه القوات.
فرضت هذه العمليّة خشية أمنية من قوافل الشاحنات وما قد تتضمّنه من فرص لتهريب السلاح والذخائر، وما قد يشكله سائقوها من خطر ماهر آخر يصعب توقعه، وسوف يكون الحل الجذري إقفال كل الممرات الحدودية، ونظراً لاستحالة ذلك تقييد الحركة عبر الحدود الى أقصى درجة ممكنة، لكن الخسارة التي سوف تلحق بالضفة الغربية سوف ترفع من وتيرة التصعيد فيها، بينما الخسارة الأكبر سوف تلحق بالكيان واقتصاده، حيث شكل الخط البرّي عبر الأردن ودول الخليج منفذاً وحيداً لتخفيف وطأة الحصار الذي فرضه اليمن عبر البحر الأحمر على حركة البضائع المتجهة إلى موانئ الكيان، وسوف يكون على الكيان تحمّل تبعات التشدّد والتعقيد وربما الإقفال مزيداً من الحصار.
من نتائج هذه العملية وفقاً لثقافة الإنكار التي يعيشها الكيان تجاه تأثير الوحشية التي يدير الحرب عبرها، والإنكار الأصليّ للحق الفلسطيني الذي يُجمع عليه قادة الكيان، أن يجري الإيحاء بأن النظام الأردني واجهزة الأمن الأردنية تتحمل مسؤولية هذه العملية وهذا التهديد، ورغم كل ما يبذله الحكم في الأردن من ماء وجهه أمام شعبه في المساهمة بتأمين أمن الكيان طيلة مدة الحرب على غزة وخلال الردود التي قامت بها قوى المقاومة على التوحش الإجرامي لجيش الاحتلال، سوف تصيب العلاقة بين النظام والكيان شظايا من عدم الثقة على خلفية التربص الموجود أصلاً في عقول قادة الكيان تجاه الأردن كوطن بديل للفلسطينيين والتوتر الأردني الدائم تجاه هذا المشروع، ما يدفع للأمل بتبدّل ولو طفيف في أداء الأجهزة الأردنية أمام تعالي وغطرسة أجهزة الكيان، بحيث تتراجع الوتيرة التي يقوم بها الجيش الأردني وأجهزة الأمن الأردنية لتعقب كل محاولات إدخال الأسلحة والذخائر الى الأراضي المحتلة، وترك الكيان يقوم بالمهمة على عاتقه، ذلك أن المقاومين لا يمانعون أن يواجهوا الاحتلال وهم يحاولون إيصال الاسلحة والذخائر الى الضفة، لكنهم يتفادون المواجهة مع الأجهزة الأردنيّة.
الأكيد أن الرواية الإسرائيلية عن خطة إيرانية وأموال إيرانية تفسر العملية تثير ضحك الأردنيين وسخريتهم، وخصوصاً أهالي معان، وكل من يعرف الشهيد ماهر، وخصوصاً الأجهزة الأمنية الأردنية التي تعرف أن ما جرى قابل للتكرار، لأنه فعل نخوة وشهامة لن تنجح بتعقيمها الوحشية الإجرامية لجيش الاحتلال.