أولى

معبر الكرامة وتوسيع دائرة المقاومة!

‬ د. محمد سيد أحمد

عملية معبر الكرامة التي قام بها البطل الأردني الشهيد ماهر الجازي والتي لم تستطع حكومة بلاده تأييدها بل أدانتها، تعدّ علامة فارقة في تاريخ صراعنا مع العدو الصهيوني بل ومع المشروع الاستعماري الغربي برمّته قديماً وحديثاً، خاصة إذا ما وقفنا وتأمّلنا جيداً نصّ رسالته الخطية التي نشرتها بعض وسائل الإعلام الفلسطينية وانتقلت بسرعة البرق إلى مواقع التواصل الاجتماعي ولاقت تفاعلاً وتعاطفاً كبيرين بين قطاعات واسعة من الشعب العربي، حيث قال: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. إلى أمي وأبي الأعزاء سامحوني وارضوا عني فإني شهيد بإذن الله والحمد لله.. أريد منكم أن لا تذكروني ولكن اذكروا موقفي لعله يكون خالداً ودافعاً لأبناء أمتنا العربية ولأبناء الأردن النشامى خاصة ليتخذوا موقفاً تجاه المحتلين الصهاينة الذين يرتكبون أبشع المجازر بحق أخواتنا وأطفالنا ونسائنا في غزة وفلسطين.. أخواتي أبناء العرب إن لم يكن لكم دين فليكن فيكم غيرة ونخوة»…
يتضح من الرسالة أنها دعوة لتوسيع دائرة المقاومة الشعبيّة ضد العدو الصهيوني بعيداً عن اتفاقيات السلام المزعومة الموقعة من الحكومات العربية، فـ ماهر الجازي يذكرنا بأنه من نسل الجنود المصريين الأبطال الشهيد البطل سليمان خاطر 1985، والبطل أيمن حسن 1990، والشهيد البطل محمد صلاح إبراهيم 2023، لذلك يجب تفسير ما يحدث في إطار مواجهتنا مع المشروع الاستعماري الغربي، وهو المشروع القديم والمعلن ضد أمتنا العربية، والذي يتعامل معه العرب باستهتار شديد وكأنه ليس موجوداً…
وبعيداً عن الرجعية العربية الخائنة والعميلة والتي تعاونت مع المشروع الاستعماري الغربي وأدّت أدواراً وظيفيّة في خدمته، من أجل مساعداتها على البقاء في سدة الحكم، فإنّ باقي الدول العربية الخارجة عن محور الرجعية العربية قد تعاملت مع المشروع بتهاون وتجاهلت وجود هذا المشروع من الأصل، لذلك لم تسعَ لمحاولة إجهاضه، وهو ما أدّى إلى نجاح المشروع في تحقيق بعض أهدافه المعلنة على مدار ما يزيد عن قرن من الزمان.
وقد بدأت معالم المشروع المعلنة في الظهور في مطلع القرن العشرين عندما ظهر التقرير النهائي لمؤتمرات الدول الاستعمارية الغربية الكبرى في عام 1907، والذي قرّر أنّ منطقة شمال أفريقيا وشرق البحر الأبيض المتوسط هي الوريث المحتمل للحضارة الغربية الحديثة، لكن هذه المنطقة تتسم بالعداء للحضارة الغربية، لذلك يجب العمل على تقسيمها، وعدم نقل التكنولوجيا الحديثة إليها، وإثارة العداوة بين طوائفها، وزرع جسم غريب عنها يفصل بين شرق البحر الأبيض المتوسط والشمال الأفريقي، هذه هي الأهداف الكبرى المعلنة للمشروع الاستعماري الغربي ضدّ أمتنا العربية، فماذا فعل المشروع لتحقيق أهدافه؟ وماذا فعل العرب لإجهاض مشروع المؤامرة عليهم منذ ذلك التاريخ؟
وللإجابة على السؤال الأول يمكننا القول إنّ المشروع الاستعماريّ الغربيّ قد نجح في تحقيق بعض أهدافه المعلنة بشكل تدريجيّ منذ ذلك التاريخ فبالنسبة للهدف الأول المتعلق بعملية التقسيم فقد نجح عبر اتفاقية «سايكس ـ بيكو» 1916 بتقسيم الأراضي العربية في المنطقة الواقعة بين شرق البحر الأبيض المتوسط والشمال الأفريقي، كما جاء في التقرير.
وبالنسبة للهدف الثاني للمشروع والمتمثل في عدم نقل التكنولوجيا الحديثة لمجتمعاتنا العربية فقد نجح المشروع قديماً وحديثاً في حرمان مجتمعاتنا العربية من التكنولوجيا الحديثة وتمكن من تحويلنا لمجتمعات مستهلكة للتكنولوجيا.
وفي ما يتعلق بالهدف الثالث للمشروع والمتمثل في إثارة العداوة بين طوائفها فقد نجح المشروع قديماً في ذلك، لكنه لم يكن بالشكل الواضح الذي يتمّ تنفيذه الآن فعملية التقسيم والتفتيت على الأسس الطائفية والمذهبية والعرقية قد أصبحت معلنة خاصة في الدول التي تتميّز تاريخياً بهذا التنوع الطائفي والمذهبي والعرقي.
أما الهدف الرابع للمشروع والمتمثل في زرع جسم غريب عنها يفصل بين شرق البحر الأبيض المتوسط والشمال الأفريقي فقد نجح المشروع قديماً وعبر وعد بلفور عام 1917 في منح اليهود إنشاء «وطن قومي» لهم في فلسطين، تحوّل إلى (دولة مزعومة) معلنة عام 1948 وما زالت قائمة وتتمدّد حتى اليوم…
بالطبع لم تكن الولايات المتحدة الأميركية من بين القوى الاستعمارية الغربية الكبرى عندما انطلق المشروع في مطلع القرن العشرين، لكنها جاءت بعد الحرب العالمية الثانية، وتمكّنت مع مطلع التسعينيات من القرن العشرين من الانفراد الكامل بالساحة الدولية، ومع مطلع الألفية الجديدة سعت لاستكمال المشروع بثوب جديد عُرف بمشروع «الشرق الأوسط الجديد» والذي يسعى لتقسيم الوطن العربي مجدّداً، ويعتمد في ذلك على إشعال النيران داخل مجتمعاتنا العربية، فكلما هدأت وخفتت في مكان عاود الأميركي إشعالها من جديد، ليظلّ مستفيداً على عدة مستويات لعلّ أقلها هو نهر الأموال المتدفقة على خزانته مرة بفعل التبعية الاقتصادية، ومرة ثانية بفعل شراء السلاح، ومرة ثالثة بفعل الحماية الوهميّة من أعداء وهميين صنعهم لنا على أعينه ليبتزنا لنقدّم له ثروات أوطاننا طواعية.
وفي ما يتعلق بالإجابة على السؤال الثاني ماذا فعل العرب لإجهاض أهداف المشروع الاستعماري الغربي؟ فالإجابة القاطعة تقول إننا فشلنا في المواجهة بل تعاملنا مع المشروع بتهاون شديد، ونجح العدو الغربي قديماً وحديثاً في تجنيد الرجعية العربية لتكون أدوات وظيفية يتمّ بها تنفيذ أهدافه، ووقفت باقي الدول العربية متفرّجة وكأنها غير معنية بالاستهداف. لكن رغم ذلك كان هناك دائماً أمل في بعض القوى العربية الواعية بأبعاد المشروع الاستعماري الغربي وأهدافه التآمرية والتي سعت دائماً إلى مواجهة التقسيم بالوحدة، ومواجهة عدم وصول التكنولوجيا الحديثة بالاعتماد على النفس عبر مشروع تنموي مستقلّ، ومواجهة إثارة العداوة بين الطوائف بزيادة اللحمة بين المكونات الطائفية والمذهبية والعرقية، ومواجهة الجسم الغريب المزروع بالتصدّي لهذا العدو الصهيوني والسعي لاقتلاعه، إنه مشروع المقاومة يا سادة، لذلك لا بدّ أن تعي شعوبنا العربية حقيقة المؤامرة الأميركية ويجب أن لا يتمّ استخدامهم كوقود لإشعال النيران داخل مجتمعاتهم، وأن يتمّ الاصطفاف خلف المقاومة وتوسيع دائرتها، فعلى الرغم من الصمت العربي الرسمي والشعبي عبر الشهور الـ 11 الماضية من العدوان الصهيوني تحت المظلة الأميركية على غزة، إلا أنّ صمود المقاومة الفلسطينية البطلة والشجاعة ومعها جبهات الإسناد في لبنان واليمن والعراق وسورية وإيران، جعلت لدينا أمل في تحقيق الانتصار، واليوم بعملية معبر الكرامة يزداد الأمل في توسيع دائرة المقاومة على المستوى الشعبي، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى