مستقبل المنطقة… وحرب الأدمغة
نمر أبي ديب
توازياً مع الحروب التقليدية التي عرفتها المنطقة سابقاً تشهد الجبهة على الحدود اللبنانية ـ الفلسطينية، “حرب أدمغة” من نوع آخر أجبرت في مراحلها الأولى، المعسكر الأميركي بما يمثِّل من قوى إقليمية حاضنة، وأخرى حليفة لكيان الاحتلال في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية على التراجع، لا بل على التعايش، مع أمر واقع عسكري، كسرت من خلاله المقاومة جدار الفصل ما بين “الدفاع الاستراتيجي، والهجوم الوقائي”، على قاعدة “سقوط المحرمات”، أميركية كانت أم إقليمية “إسرائيلية”، ما يؤكد بـ الدليل القاطع، الذي تجسد في “عملية غاليلوت”، أنّ حروب الأدمغة في أوجِها، والمستقبل العسكري لدول المنطقة قيد التشكيل، على أكثر من جبهة، بـ أسس مختلفة ذات طبيعة وأولويات جديدة، يمكن من خلالها استشراف المراحل وحسم الحروب الاستراتيجية الكبرى بعمليات بحت نوعية، موضعية الجغرافيا في الدرجة الأولى، بالغة التأثير الأمن وجودي على كيان الاحتلال الاسرائيلي، الذي دخل مع عملية الردّ العسكري نفق التكيُّف التكتيكي مع أمر واقع استثنائي تطوعت لتغييره دول المحور الأميركي برمتها، الدولية/ الأوروبية منها وحتى الإقليمي.
ما تقدَّم، يؤكد من حيث النتائج “الأمن عسكرية”، لـ جملة التحولات والتطورات الميدانية، “هندسة العقول”، في إدارة توازنات المنطقة سياسية كانت أم عسكرية، يؤكد أيضاً على حروب الأدمغة الحديثة، التي دخلت بعد استهداف الوحدة 8200، مرحلة استثنائية، دمجت على أكثر من مستوى أمني عسكري وسياسي، بين التكتيك الميداني وهندسات عسكرية، أرست بفعل التحوّلات الاستراتيجية، كما التطورات الميدانية، قواعد اشتباك جديدة، مثبتة لمبدأ الردع الإقليمي على قاعدة “سقوط الاستثناءات”، وما تتعرّض له القواعد الأميركية، على الساحتين “العراقية والسورية”، يؤكد حجم التحوّل المتنامي في بنية الموقف المقاوم، يؤكد بالتكامل مع “هدهد” 1-2-3 إضافة إلى منشأة “عماد 4″، كما استهداف “قاعدة غاليلوت”، سيطرة الأنماط الهندسية الجديدة، ذات الحسابات الدقيقة منها والحساسة، على مراحل إعداد الصياغة والتنفيذ، ما قد يتماهى بالشكل العسكري، كما في البعد الاستراتيجي للمشهد، مع “حروب الأدمغة” الحديثة، وهندسة مراحلها المستقبلية.
انطلاقاً مما تقدَّم، أيقظت عملية حزب الله الأخيرة، الركود العسكري، الأميركي/ “الاسرائيلي” المزدوج، من ثباته الضمني، نتيجة الاختراق الميداني، لـ “عمق السرية الاسرائيلية”، الذي لامس مع بلوغ مُسيّرات المقاومة مدينة تل أبيب أمن الكيان القومي،
يُضاف إلى ما تقدّم افتقاد القوى المشتركة الأميركية الاسرائيلية قدرة مجاراة حزب الله في عملية “غاليلوت”، سواء على مستوى إسقاط المُسيّرات، أم على مستوى محاكاة ردع استراتيجي ناجح، ذات بعد استباقي، لعمليات الاختراق، التي باتت قابلة للترجمة الميدانية، وأيضاً للاجتهاد الأمني، وحتى العسكري، في مجمل ساحات المواجهة، داخل كيان الاحتلال وخارجه، لتشمل كامل الخطوط المستهدثة مستقبلاً، في أيّ حرب عسكرية مقبلة.
بالرغم من التفوّق التقني الكبير الذي يختزنه وما زال المحور الأميركي بـ متفرّعاته الأوروبية، الأطلسية منها وحتى الدولية يُضاف إليه، عظمة الدور العالمي، والحضور التكنولوجي، في بعده “الأمن عسكري والمدني”، أثبتت التجارب الأخيرة حجم الفوارق النوعية الفاصلة، بين قدرات الحزب التكتيكية، وبين سقف النشاط العسكري، للمحور الأميركي، الذي يعيش اليوم مراحل وجودية استثنائية، مرفقة بحلقات ردع فارغة كشفت المقاومة في “عملية غاليلوت” مع (استهداف الوحدة 8200) حقيقتها المدمرة، لكيان الاحتلال “الاسرائيلي”.
ما تقدّم، ألقى الضوء بصورة ميدانية شبه شاملة، على حقائق عسكرية خفية غير قابلة للظهور الميداني، وحتى للانكشاف، بمعزل عن صدمات وجودية أكثر من قاسمة، تزلزل في الحد الأدنى، كما “عملية غاليلوت”، كيان الاحتلال الاسرائيلي.
كما أنّ ما تقدّم كشف من حيث “المقاربات الاستراتيجية”، لأصحاب البصيرة العسكرية، حجم الفراغ الوجودي الذي تضمّنته عملية الانتقال الأميركي/ الاسرائيلي، من أحكام وشروط الحروب التقليدية إلى مراحل الأفول السريع للخيارات الميدانية الأمن عسكرية، والتلويح بضربات نووية محدودة الأفق والتأثير، ما أكَّد على مستوى “الردع الإقليمي، كما “سباق التسلح”، افتقاد المحور الأميركي مع متشعّباته الأوروبية، لأكثر من حلقة ربط أمني وعسكري تفصل بموازين الحروب الحديثة ما بين سقف الهجوم العسكري للنمط الميداني السائد، وبين خيارات نووية لم تحن ساعتها الميدانية بعد، وهنا تجدر الإشارة، إلى سلسلة مواقف استثنائية أعلن من خلالها البيت الأبيض (أنّ هجوم حزب الله الأخير، كان كبيراً ومختلفاً في نطاقه)، في حين أعلن كيان الاحتلال الاسرائيلي (أنّ الحرب مع لبنان ستكون في المستقبل البعيد وليس الآن).
حملت مواقف الولايات المتحدة الأميركية كما كيان الاحتلال الإسرائيلي اعترافاً علنياً بتفوّق الحزب عسكرياً، وسط تسليم كامل بنتيجة حرب، روَّج لها الكيان الاسرائيلي طويلاً، قبل أن تبدأ، لذا يجدر التساؤل عن ما وراء المشهد الميداني، واختراق “الوحدة 8200” في عملية “غاليلوت”، يجدر التساؤل عن سرّ الموقف المزدوج الأميركي/ الاسرائيلي، عن خلفيات التراجع العسكري، في لحظات تعتبر مصيرية، من تاريخ الصراع القائم في المنطقة والعالم؟
الجواب اليوم في غاية البساطة، أميركا فوجئت، كما “إسرائيل” بنوعية العملية وحجم الاختراق الذي حققه حزب الله، وسط غياب شبه كامل للجهوزية، والقدرة على دخول حرب أدمغة، سجّلت فيها المقاومة مع صافرة البداية منذ الدقيقة الأولى، هدفاً استراتيجياً من الوزن والعيار الثقيل، لم ولن يستوعبه كيان الاحتلال “الإسرائيلي” في المدى المنظور.
كشفت حرب الأدمغة التي تخوضها المقاومة بمجمل فصائلها حقائق ميدانية عديدة أبرزها: “غياب الجاهزية العسكرية”، المرفقة بعدم قدرة “إسرائيلية” على الدخول في حروب أدمغة بدأت في اختراق غاليلوت، التي تضمّ إلى جانب الأهمية التي يسجلها “موقعها الجغرافي القريب من تل أبيب”، أحد أخطر وكالات الاستخبارات، وأكثرها سرية في “إسرائيل” والعالم.
“حرب لبنان الثالثة” مؤجلة، حتى إشعار آخر، والسبب حرب الأدمغة في الدرجة الأولى، عوامل التفوق الاستراتيجي التي فرضها حزب الله بعد استهداف الوحدة 8200، في الدرجة الثانية، قواعد اشتباك جديدة ساهمت في وضع “إسرائيل” على مسارٍ حرج تطلب على المستوى العسكري إعادة تأهيل وعلى المستوى الاستراتيجي صياغة مختلفة لجبهتها الداخلية، مع سباق تسلح من نوع آخر، فرضته هندسات عسكرية متجدّدة وحروب أدمغة استثنائية دخلتها المقاومة من الباب العريض…