الإطار السياسي والعسكري أهم من التفاصيل التقنية
ناصر قنديل
– الاشتغال على عامل الإثارة يستعمله بعض الإعلام للترويج لروايات تقنية حول كيفية حدوث العدوان الإسرائيلي الإجرامي، الذي استهدف ثلاثة آلاف لبنانيّ ومقيم في لبنان منهم عاملون في سفارات غربية ومنهم موظفو مستشفيات، وأغلبهم في بيئة المقاومة من مؤسسات صحيّة ونقابيّة وتربويّة وعدد غير قليل من العاملين في بنية المقاومة. وسواء كانت العملية تقنياً عبر النجاح بعمل استخباري لإيصال أجهزة تم التلاعب بها قبل وصولها للاستخدام، او عبر السيطرة على هذه الأجهزة بموجات سيبرانية عبر الأقمار الصناعية، فإن التفوّق التقني لمخابرات الاحتلال لا يمنع إمكانية قيام حزب الله بعمل لا أخلاقي، لا يمنعه عنه ضعف الإمكانات بل الالتزام بالقيم الاخلاقية التي لم تردع الكيان عن ارتكاب هذه الجريمة البشعة، والتي لا يشبهها إلا لو قام حزب الله بسكب مواد مسمومة في مجرى نهر الوزاني ونهر الحاصباني والاستخفاف بمن سوف يموت بهذه السموم طالما أن جنود الاحتلال سوف يكونون منهم، ولعل هذا هو الفارق الجوهريّ بين قوى المقاومة وكيان الاحتلال.
– الأهم من التفاصيل التقنية هو الإطار السياسيّ والعسكريّ، والواضح أن رئيس حكومة الاحتلال لا يأمل بأن هذه العملية سوف تؤدي لأحد ثلاثة أمور يريدها من حزب الله: الأول هو فك الارتباط بين جبهة جنوب لبنان وجبهة غزة والقول لا تقف هذه الجبهة حتى يتم الاتفاق مع المقاومة مع غزة، وحزب الله لن يتراجع عن هذا الالتزام المبدئي الثابت بسبب هذه العملية، وقد قال ذلك بوضوح في بيانه. والثاني هو فتح الطريق لعودة المهجرين من مستوطنات شمال فلسطين المحتلة، ونتنياهو يعلم أن هذه العملية لن تسهل عودة المهجرين التي حوّلها إلى عنوان للحرب بحلتها الجديدة التي افتتحتها هذه الجريمة بل سوف تزيد أعدادهم بالتأكيد، أما الهدف الثالث فهو إبعاد مقاتلي حزب الله الى ما وراء نهر الليطاني، وهو واثق أن ردّ الفعل على هذه الجريمة هو الرد القاسي وليس الرضوخ وبحث مبدأ الابتعاد عن خط الحدود. وهذا يعني شيئاً واحداً هو أن نتنياهو يريد افتتاح جولة تصعيد بمعزل عما إذا كانت هذه الجولة تحقق له الأهداف، التي تتحوّل الى مجرد ذرائع لهذا التصعيد.
– بخلاف ما يروّج له الكثيرون من الذين لا يحبون حزب الله، بمن فيهم بعض مؤيدي المقاومة في غزة والذين لا زالوا يعيشون أحقاد تموضعهم في الحرب على سورية وموقف الحزب منها، عن تهرّب حزب الله من التصعيد، وترويج هؤلاء أن هذا التهرّب يحكم حزب الله فيمنح نتنياهو تفوقاً بتجاوز الخطوط الحمراء، فالذي جرى في اغتيال القائد فؤاد شكر والذي جرى عبر الجريمة الأخيرة، يضع الردود التي يمتلكها حزب الله في بنك أهدافه في إطار الدفاع المشروع ولذلك لا يخشى فيها تصعيداً، وما لم يفهمه الكثيرون منذ اليوم الأول لانخراط حزب الله في الحرب وفتح جبهة الإسناد من جنوب لبنان، هو أن رباعيّة حزب الله في تصعيد مفهوم معركة الربح بالنقاط والصعود على سلم المواجهة وصولاً لما أسماه الأمين العام لحزب الله بالاحتمالات المفتوحة، هي أولاً الحفاظ على حشد جبهة تأييد لبنانية عريضة وراء كل خطوة يخطوها، وثانياً عدم منح الكيان فرصة تصوير موقعه في حالة المظلوميّة والتعرض لتهديد يسمح له باستعادة ما خسره في الرأي العام الغربي خصوصاً، وثالثاً تظهير ردوده القاسية للرأي العام داخل الكيان بصفتها نتائج سياسات حكومته التي تسبّب له الكوارث وتجلب على رأسه المصائب، وليست تهديدات تدعوه للاصطفاف وراء حكومته، ورابعاً أن تكون نتيجة كل خطوة تصعيديّة هي زيادة اليأس من المضي قدماً في خيار المواجهة، والدفع نحو المزيد من الضغوط للذهاب الى توقيع اتفاق مع المقاومة في غزة تنهي كل الحروب دفعة واحدة. ووفقاً لهذه المعايير فإن حزب الله سوف يكون مرتاحاً هذه المرة وهو يذهب الى ضربات قاسية للكيان لأن رباعيّته محققة بقوة.
– على عكس حزب الله يفكر نتنياهو بطريقة معاكسة، فهو يعرف أن لا أمل يرتجى من ضرباته لتغيير اتجاه الخسارة المؤكدة التي يتهرب من الاعتراف بها كنتيجة للحرب، ثبتت منذ يوم طوفان الأقصى وتأكدت مع هدنة غزة الأولى، وتكرّست مع إقفال البحر الأحمر وترسّخت مع تهجير مستوطني الشمال، لأن الأمر في عقل نتنياهو ومخابراته هو أنهم يخسرون الحرب فلا مشكلة إن اعترفوا اليوم أو غداً، طالما أن الجيش ينفذ الأوامر والكنيست يوفر الأغلبية وواشنطن تقدّم النصائح لكنها توفر التمويل والتسليح والحماية الدولية، وكلما نضجت بين أيديهم عملية نوعية كالوصول إلى ما يتيح اغتيال القائد فؤاد شكر أو التيقن من القدرة على تفجير أجهزة المناداة، يصنعون مناخاً سياسياً للقيام بالعملية، وبعدها يسعون إلى احتوائها، تحت سقف عدم الذهاب إلى الحرب ولو عبر كذبة التلويح بها. فالتصعيد السياسي غبّ الطلب لان هناك عملية باتت جاهزة على الطاولة وليس التصعيد السياسي سبباً لتحضير عملية ووضعها على الطاولة، لكنهم لا ينتبهون أنّهم كلما اعتمدوا هذا الطريق قد يبدو لهم أنهم يحققون نصراً إعلامياً، أو تكتيكياً، لكنهم كلما دفعوا ثمن ما يفعلون يخسرون الأهم في قوتهم، فتضعف الوحدة الداخلية وتتراجع قدرات الجيش القتالية، وتفقد الحرب التي يخوضونها قدرتها على إقناع أحد بجدواها وقدرتها على حل العقد المستعصية التي يمثلها وضع الأسرى والبحر الأحمر والمهجّرين، والتي يزداد الاقتناع بأن ثمة طريقاً واحداً لحلها هو الذهاب الى الاتفاق مع المقاومة في غزة، وبدلاً من إعادة الأسرى أحياء يتناقص عددهم بالقتل، والبحر الأحمر يصبح موحشاً أكثر للسفن العابرة وأعداد المهجرين تزداد، والمقاومة جاهزة للمضي بهذه الحرب سنوات.