مقالات وآراء

من سيحكم الأزرق في عصر الذكاء الاصطناعي؟

‬ د. رضا الشّاب*

نستفيق كلّ يوم كما ننام على أخبار النزاعات وأنهار الدم المتنقلة برشاقة على مساحة كوكبنا الأزرق وبين أحيائه الضيقة، وكأنما قدر البشر أن يجمعهم الافتراق بالأحمر القاني في حدود المكان دون قيود الأزمنة. دولٌ عظمى يختلف ناسها على تفاصيل السياسات الاقتصادية وفنون السيطرة، ويتفقون على شؤون الإمبراطورية المالية الكبرى وعلى نظام القهر الطبقي.
لماذا كلّ هاتيك الحروب على امتداد جادة الحضارات التي ما ملّت من نعوش القتلى؟ ألا تسقى نهضة الأمم إلا بدماء أبنائها؟ إلى أين يسير عالم اليوم في ظلّ صراع الجبابرة؟ وماذا عن مصير منطقتنا العربية والإسلامية بتعقيداتها الهائلة وتناقضاتها العجيبة إلى حدّ الهذيان؟ أوَليس عجيباً أن تُباشر «إسرائيل» مهمة الجلاد في المتوسط بإيعاز وتسهيل أميركي، فيما يهرب عرب الأنظمة بخيبتهم إلى مرجعيتهم العظمى (الولايات المتحدة الأميركية)؟ مجموعة من الأسئلة تُركت تدور على ذاتها لسنين في أروقة النخب وبين دفاتر أفكارهم، حتى خرجت بعض أجوبتها على لسان مفكرين غربيين رصدوا سحيق تأريخ الشعوب واستشرفوا مستقبلها على قاعدة أنّ «التاريخ يعيد نفسه».
عالم الدراسات المستقبلية الأميركي «آلفين توفلر» الذي توفي قبل ثماني سنوات كان واحداً منهم، فقد كان مؤرخاً أساسياً في حقل «تاريخ التصورات الاستراتيجية الأميركية». وقد أصبحت أطروحاته جزءاً لا يتجزأ من الفكر الرسمي للبنتاغون والمؤسسات الأميركية. بحسب توفلر «الحرب المعلوماتية» هي «حرب الموجة الثالثة» تأتي من ظهور الإلكترونيك الذي يحدث ثورة تكنولوجية ثالثة في تاريخ الإنسانية. يقول المؤلف إنّ مقاربته هذه تعتبر أنّ الأمواج الثلاث تطبع عالم اليوم حيث تتعايش في ما بينها بين موجة سفلى (زراعية) وموجة متوسطة (صناعية) وموجة عليا (معلوماتية).
ففي كتابه «حضارة الموجة الثالثة» قسم الرجل تاريخ البشر إلى عصور أربعة: عصر الصيد، الزراعة، الصناعة والتكنولوجيا، وترك لنا مهمة صياغة ملامح عصر المستقبل الوشيك: الذكاء الاصطناعي. التقسيم جرى عنده على أساسٍ اقتصادي، فالحضارات تُشَكَّلُ باقتصادها.
فإنسان عصر الصيد، على سبيل المثال، كان يعتاش من مطاردة فريسته، لذا كان دائم الترحال، سكن الكهوف والجبال ولم يحتج إلى بناء المنازل الثابتة، وتخفف من الأسرة والأولاد. وهكذا شُكِّلت حياة الإنسان القديم الاجتماعية والثقافية والسياسية والعسكرية على أساس عمله في الصيد. يرى توفلر أنه منذ بدء الخليقة حتى الآن، عرفت الإنسانية موجتين كبيرتين من التغيير، كل منهما ألغت إلى حدّ كبير، ثقافات ومدنيات سابقة، وأحلت محلها صورَ حياةٍ لم تكن تدركها الأجيال القديمة.
الموجة الأولى، أيّ الثورة الزراعية امتدّت آلاف السنين، احتاج المُزارع فيها إلى اليد العاملة لحرث الأرض وحماية المحاصيل من اللصوص، فبرزت الحاجة إلى إنجاب الأولاد والتكاتف والعقد الاجتماعي، فكانت العائلة الممتدة، وشيّدت المساكن إلى جانب البساتين، وتمّ بناء الجيوش وتنصيب القادة السياسيين على اختلاف أنظمة الحكم لإدارة التجمعات البشرية، فولدت أولى الحضارات في العالم: «حضارة بلاد ما بين النهرين». وفي هذا يقول توفلر: «لقد جلبت لنا الحضارة نمطاً عائلياً جديداً، وغيّرت طرق العمل، والحب والمعيشة، وظهر اقتصاد جديد نتج عنه مشاكل سياسية جديدة، وفي خلفية كلّ ذلك تبدّل وعي الإنسان».
أما الموجة الثانية، وتعني انطلاق العصر الصناعي في بريطانيا ومنها إلى أوروبا والعالم، فقد امتدّت على ثلاثمئة سنة. في هاتيك السنوات التي مهّدت للحربين العالميتين الأولى والثانية معلنة دخول التكنولوجيا عصرها، بدء الاعتماد على الماكينات وكثر الإنتاج وزاد العرض مقابل الطلب، فولدت مفاهيم الموضة والعصرنة لتشريع الاستهلاك وربطه بتقدير ذوات الأفراد، وأصبحت المظاهر والمكانة الاجتماعية صنوان. وهذا ما أدّى إلى تلاشي الأسرة الممتدة واكتفاء الأسرة النواة بعدد أفراد أقلّ بسبب زيادة المصاريف مقارنة مع المداخيل، ما اضطر المرأة كما الطفل للنزول إلى أسواق العمل في أوروبا لمواكبة متطلبات المعيشة، بعدما استحالت الكماليات ضروريات.
ونظراً لتسارع خطوات التاريخ وتقلّص أعمار الحضارات، سريعاً ما استقبلت البشرية «الموجة الثالثة». هنا الحياة باتت تتجدّد بأصالة وتستند إلى موارد متنوعة من الطاقة، قابلة للتجدّد، وصورة من الحياة العائلية التي تتميّز بالتفكك الأسري وتقلص أعداد المواليد إلى حدود لامست تدمير مؤسسة الزواج واستبدالها بالصداقة أولاً بين الجنسين، ومن ثم تشريع «المثلية» كبديل لإشباع الشهوات دون إنجاب. والمُراد طبعاً تقليص أعداد مواليد البشر إلى «صفر» معدل، لأنّ النظام الاقتصادي الجديد لا يريد عمالاً، بل جيوشاً من الروبوتات تقوم مجاناً وعلى مدار الساعة بأعمال مليارات البشر.
هكذا تبدو مشهدية العصر الجديد: «حضارة الذكاء الاصطناعي»، صورة مخيفة رسمها لنا توفلر منذ أوائل الثمانينيات عن عالم الغد، وحضارة المستقبل القريب. تملك هذه الحضارة الجديدة، مفاهيمها الخاصة، في الزمان والمكان، والمنطق والسببية، وكذا تملك مبادئها الخاصة في ما يتصل بسياسة الغد. ولأنّ التاريخ روى لنا أنّ كلّ موجة كانت تسلّم أختها بحروب كونية، بدأ حكام العالم اليوم يبشروننا بحرب عالمية ثالثة تكون مسارحها المستعمرات القديمة، تعيد صياغة موازين القوى على الأرض. فاستعر سباق “التسلح الإلكتروني” بين الصين والولايات المتحدة للسيطرة على الذكاء الاصطناعي، وتحويل العالم بموارده المادية والبشرية إلى ثكنات من الروبوتات تتحرك بكبسة زر أميركية – صينية.
نعم، المنطقة تغادر مربع الأحادية القطبية التي تجلت في السيطرة المنفردة للولايات المتحدة في عالم ما بعد الاتحاد السوفياتي، ما يعني تراجع احتمالات الصدام الكبير بين التنين الصيني وبلاد العم سام، مقابل اتفاق على حكم ثنائي للكوكب في العصر الجديد. لذا بات مفهوماً خلفيات إغراق الدب الروسي كلاعب دولي كبير في قارته العجوز تمهيداً لانتزاع دوره، على أن تقوم الولايات المتحدة بإعادة ترتيب أوراق قوّتها في المنطقة ضمن سياسة تبريد الخلافات مع الشريك الصيني اللدود. وهو ما قرأه جيداً قائد جبهة المقاومة مرشد الثورة الإسلامية في إيران السيد علي الخامنئي، حيث حضّ على أن يكون الذكاء الاصطناعي قضية مركزية يجري التركيز عليها والتعمّق فيها، إذ سيكون لها دورٌ في التحكّم في مستقبل المعمورة.
عالمٌ يقتربُ من حرب عالمية كبرى (لحظةُ ارتطامِ الموجة) بعناوين اقتصادية، تُفرِغُ الساحات الدولية لتفاهمات المرحلة المستجدة بأثمان جيوسياسية تضمن بقاء الانتظام العالمي بين قطبين، وليس مستبعداً حينها أن تُترك تايوان للصين، وأن تَفقدُ «إسرائيل» وظيفتها كشرطي أميركي في منطقتنا مع تبدّل لعبة الكبار، وهو ما يخشاه أحزاب الكيان المحتلّ ويسعون إلى إعادة ترسيخ حضور «إسرائيل» كسيف «غرب متحضّر» لا يغمد، لم ينه حربه لا على الفلسطينيين بذاتهم ولا على العرب بمجموعهم. فيما تثبت وقائع ما بعد طوفان الأقصى أنّ «دولة اليهود المزعومة» أمست تفتقد أقلّ لوازم الأمن والبقاء ويُهيمن على يومها التالي الغموض والقلق. فغزة تهدّدهم جميعاً، إن تراخوا معها تمدّدت فصارت فلسطين.. وإذا ما صــارت فلسطين صارت الأردن ومصر وبلاد الشام جميعاً حتى ما بعد آبار النفط.
أما نحن سكان الشرق الأوسط أو دول غرب آسيا، فعلينا الاستعداد للتبدلات الكبرى وأن نغادر دبلوماسية الابتسامات للغرب المتوحش، عبر التشبّث بأرضنا وقضايانا، فمنطقتنا ستصمد، كما صمدت مع تلاطم الموجات السالفة، وستبقى بفعل مقاومات طارد سيفها صناع الهزيمة فينا، فتلهم أجيالاً صاعدة من أبنائنا تختزن النار والعلم والعزيمة، ووحدها فلسطين هي حضارتنا في العصر الجديد، ووحده من قاتل لأجلها ومعها وبها سيكون له الغد.

*كاتب سياسي وأستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى