مقالات وآراء

«طوفان» النزوح «ينذكر ما ينعاد» (الحكي مش مثل الشوفة)…

‭}‬ علي بدر الدين

تواريخ 23 و24 و25 أيلول من العام 2024 لا يمكن أن تُنسى أو يطوي صفحاتها شعب الجنوب لأنها تُمثّل بالنسبة له قمة المأساة والمعاناة والعذاب والقهر والقلق والذلّ، التي تسبّب فيها العدو الصهيوني المتوحّش حين استهدف بطائراته وصواريخه المدنيين في القرى والبلدات والمدن على مساحة الجنوب والبقاع ومناطق أخرى، فقتل ودمّر وأباد عائلات بكاملها، زارعاً كلّ أحقاده وإجرامه ووحشيته وعنصريته في بيوت المواطنين وأرزاقهم، ودفعهم إلى مغادرة قراهم ومنازلهم على عجَل هُم وأطفالهم في رعب حقيقي وقاتل، «فضبّوا» أغراضهم وما خفَّ حمله وغلا ثمنه، و»لملموا» أدويتهم وهاموا على وجوههم لا يعرفون إلى أين المصير، وأين تحطّ بهم الأقدار ويحطّ بهم الرحال. هل ستكون في مدينة صيدا الأقرب الى الجنوب، أم في الجبل أم في بيروت أو الشمال (عكار، طرابلس، زغرتا…) وبعض البقاع الآمن؟
غير أنّ الوصول إلى هذه الأمكنة التي يعتقدون أنها ستكون آمنة ومؤقتة، دونه معوقات ومصاعب ومعاناة، لا يمكن لأيّ إنسان عادي تحمّلها، فكيف إذا كان خارجاً من جحيم النار والدمار والقتل والغارات التي واكبته منذ انطلاقه من بيته وقريته حيث كانت تقصف الطرق والبيوت بكلّ وحشية وإجرام، وعندما يقطع النازحون الهاربون أماكن الخطر المحدِق بهم من كلّ ناحية، وقبل ان يتنفّسوا الصعداء والشعور بالأمان المحفوف بالخوف وشرب القليل من المياه، يُفاجأون بسيلٍ من السيارات الهاربة العابرة التي تغصُّ بالأطفال والنساء وحقائب الثياب وفرش الإسفنج خشية من الآتي واحتياطاً، خاصة انّ الدولة التي شكّلت لجان الطوارئ الإغاثية والاجتماعية والصحية لم تصدق يوماً ولم تفِ بوعودها، وأكثر من ذلك فإنّ ما كان يأتي من مساعدات من بعض المنظمات الإنسانية الدولية في هكذا ظروف وغيرها، «تطير» وتحطً في جيوب من اعتادوا على النهب والنصب والفساد، على أمل أن تتغيّر هذه العادة السيئة، بل هذا النهج المُتّبع منذ عقود، ولكن يبقى «العِرق دسّاس».
وإذا بهؤلاء النازحين الطيبيّن الآتين من كلّ جهات الجنوب يلتقون على خط سير واحد ضاغط ومعقّد ومرصوص «الراس عالراس» حتى يتحوّل بدقائق إلى «طوفان» من السيارات والعائلات فيها حزينة وكئيبة وخائفة وتتصبّب عرقاً من شدّة الحرارة لا تقدر «قَرعة» الماء على وقف انحدارها على الوجوه الشاحبة والمصفرَّة الخارجة لتؤمن الموت أو أنها كانت قريبة منه أو وقع عليها.
«طوفان» نزوح الشعب والسيارات غير المسبوق كانت له بطبيعة الحال تداعيات غير سارة أو «شر البلية ما يُضحك» أو كـ «الطير الذي يرقص مذبوحاً من الألم».
حيث أنّ عشرات السيارات بل المئات منها اصطفّت على جانب الطريق (على اليمين) وهي «ترفع» أغطية الموتور وقد أطفأت محركاتها بسبب ارتفاع «حرارته» وحاجته إلى المياه التي تبرّد جوفه، ومنها مَن «خلص» معه البنزين بسبب الإهمال أو قلَّة المال أو قلّة «مروّه» أو أنه لم يكن يتوقّع ما حصل وتوسّع الاعتداءات «الإسرائيلية» الهمجية لتطال المنازل والمدنيين في أماكن بعيدة عن القرى الحدودية، والبعض «توقّف» لأنّ أحدهم وخاصة الأطفال يريد أن يقضي حاجته وقد «انزنق»، أو منهم من» داخ» من «الشوب» ويحتاج إلى الأوكسجين والهواء، والبعض الآخر على «قاب قوسين» من التقيّؤ… ومنهم من وقف مستطلعاً وللتشاور إلى أين المصير والى أين سيكون الرحيل…
يُقال «إنّ غداء بعض العائلات والأطفال تحديداً» كان خبزاً ناشفاً أو «حاف» لسد الرمق بانتظار الفرج المتوقع.
وبعد ما يُقارب ما بين 10 ساعات و15 ساعة من رحلة الآلام والرعب، بدأ الفرج بعد حاجز الجيش على «الأولي» (رحلتي استغرقت 6 ساعات) حيث انفتحت الطريق أمام السيارات التي عرّج بعضها على محطات البنزين لتعبئة خزاناتها و»وقفت» في الطابور بعد أن اطمأنت الى زوال خطر الغارات الإسرائيلية، ثم تابعت سيرها الى مكان الإقامة المؤقتة مهما كانت مدّتها، لأنه لا بدّ من العودة الى الديار مهما طال الزمن، لأنّ الجنوب بناسه وأرضه وشجره وتبغه وكلّ ما فيه لا يمكن ان يتخلى عنه أحد أو ينساه مهما بلغت التضحيات، ولأنّ الجنوب النابض دائماً بالحياة هو قلب لبنان وشرايينه النظيفة جداً التي تضخّ الحب والسلام والأمان الى كلّ الوطن.
السلامة للجميع، والسلام للبنان، والرحمة للشهداء والشفاء للجرحى، والعودة القريبة لأهله إليه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى