أولى

خيارات الاحتلال وخيارات المقاومة

– يستطيع رئيس حكومة الاحتلال وجيشه التباهي بتحقيق إنجازات عسكرية وأمنية متعددة ومتلاحقة خلال الأسبوع الماضي، لكن في الحروب يبقى السؤال دائماً عندما نبحث في القيمة الاستراتيجية لاستخدام الجيوش وما تمثله من فائض قوة تجمعه الدول والشعوب لتحقيق أهدافها وغاياتها، هو بعدد ونوع الخيارات الممكنة واقعياً التي يفتحها استخدام هذا الفائض من القوة، لبلوغ هذه الأهداف وتحقيقها، ولا مانع بل من المفيد أن يترافق ذلك مع الإبهار وإصابة العدو بالصدمة والذهول والارتباك، لكن الاستخدام المفرط لفائض القوة وما يحققه من إبهار ويصيب العدو من ذهول وارتباك يبقى بلا قيمة استراتيجية ما لم يفتح الطريق أمام خيارات واقعيّة ممكنة تجيب عن سؤال محوري في استراتيجيات الحروب، وهي صلة الوصل بين عروض القوة وبلوغ الأهداف؟
– القيمة الاستراتيجية للجيوش وفائض القوة هي في إتاحة خيار الحرب وتقاس بحدود المدى المفتوح الذي تتيحه في خيارات الحرب. ومن هنا تنبثق الوظيفة الاستراتيجية لعروض القوة واستخداماتها المبهرة عدا إصابة العدو بالذهول والارتباك، وفي حالة الحرب الإسرائيلية المفتوحة على لبنان هدف واضح، هو فك الارتباط بين جبهة لبنان وجبهة غزة، والشعار هو إعادة المهجّرين كترجمة ملموسة لوقف جبهة لبنان وفق شروط لا تتصل بمستقبل جبهة غزة، وبلوغ هذا الهدف يستدعي أن ينتج عن استخدام فائض القوة المبهر، إضافة لإصابة العدو بالذهول والارتباك، دفعه عبر التداعيات الناتجة عن هذا الاستخدام للقوة إلى القبول بشروط تحقق الهدف، فهل نجح الكيان أو اقترب من النجاح في فرض قرار فك الترابط بين جبهة غزة وجبهة لبنان على قيادة حزب الله؟
– بالنسبة لحزب الله ورغم كل الخسائر التي لحقت ببنيته وبيئته، وعلى رأسها استشهاد أمينه العام، يبدو واضحاً التأكيد في كل البيانات على التمسك أكثر بهذا الربط مع غزة، سواء بيان نعي السيد نصرالله، أو بيانات العمليات التي لم تتوقف نيرانها عن استهداف شمال فلسطين المحتلة بل زادت كثافتها، وبالتالي لا يبدو أن الكيان يملك خريطة طريق لكيفية جعل هذا النوع من الاستخدام لفائض القوة الناريّ والأمني يوصله الى إجبار حزب الله على القبول بهذا الفك الذي بات يعادل في خطاب حزب الله الهزيمة المطلقة، ويبدو من الحالة اللبنانية السياسية الداخلية أن الضربات التي لحقت بحزب الله قد منحته مزيداً من المشروعيّة لخيار الربط، ولا يبدو أن هناك نصاباً لبنانياً سياسياً أو حكومياً يمكن البناء عليه لتحقيق فك هذا الربط عبر استخدام هذا النوع من العمليات الحربية، باستخدام سلاح الجو والقدرات الأمنية لقتل المزيد من قادة حزب الله وكوادره ومناصريه وبيئته الشعبية.
– يبقى أن أمام الكيان فرصة استثمار ما نتج عن هذه الجولة المكثفة من القوة العسكرية والأمنية، لسلوك أحد طريقين أو كليهما معاً، الذهاب إلى توسيع دائرة الضغط الناري لتشمل العاصمة بيروت والبنى الخدمية اللبنانية بمعنى الانتقال من الحرب على حزب الله وبيئته إلى الحرب على لبنان دولة وشعباً، ويخشى الكيان من خسارة الكثير من المساندة التي يحظى بها لحصر حربه بحزب الله إذا فعل ذلك من جهة، لكنه يخشى من جهة ثانية ما يمنحه ذلك لقيادة حزب الله للذهاب إلى خيار استهداف مكثف للعمق المماثل في الكيان سكانياً وخدمياً، وهو لا يزال يملك وفق تقارير قادة جيش الاحتلال الكثير من قدراته اللازمة لهذا الخيار من جهة، ويبدو متردداً في فعل ذلك دفاعاً عن بنيته وبيئته بينما لا يبدو كذلك إذا توسّعت دائرة النار ومنحته فرصة التحرك تحت عنوان الدفاع عن الشعب والدولة في لبنان. ومثل هذه الفرضية تجعل الحرب على نطاق يعقد فرصة وقفها على جبهة لبنان دون المرور بجبهة غزة، كما يوحي البيان الفرنسي الأميركي المنطلق أساساً من تقدير مخاطر هذا الاحتمال.
– الخيار الثاني أمام جيش الاحتلال هو العملية البرية الواسعة، لإجبار حزب الله على التراجع بالقوة الى ما وراء الليطاني والبقاء في حزام أمني واسع للتفاوض على ربط الانسحاب منه بالتوصل إلى اتفاق يفرض قيوداً تحول دون عودة مقاتلي حزب الله إليه، وهو ما لم يستطع تحقيقه في مفاوضات ما قبل وقف النار وصدور القرار 1701 في ختام حرب تموز 2006، وتبدو قيادة الكيان مترددة بهذا الخيار، خشية أن ينتهي بفشل يحبط كل ما تحقق من إنجازات، ورغم ضغط الرأي العام المتحمّس لعملية برية يقول قادة الكيان إنهم جاهزون لهذا الخيار، لكنهم لم يتخذوا القرار بالسير فيه بعد.
– من زاوية حزب الله كانت الضربات قاسية ومؤلمة، سواء في البنية المباشرة للحزب أو في البيئة الحاضنة، لكن هناك ثلاثة عناصر قوة لا تزال سليمة في بنية الحزب، وهي أولاً هيكل تنظيمي قيادي قادر على إعادة الترميم والاستنهاض، كما فعل في تجارب سابقة، ورغم أن الضربة هذه المرة أشدّ قسوة بكثير، فإن الحزب في طريق إعادة تشكيل قيادته الحزبية والعسكرية، وثانياً بقاء البنية القتالية المعدة لخوض المواجهة البرية في الجنوب تقريباً بالقدرة ذاتها التي كانت عليها قبل بدء الجولة الأخيرة من الحرب، وثالثاً بقاء القدرة الصاروخية الاستراتيجية خارج الاستهداف كما تقول التقارير الإسرائيلية، وبقاء القوة الصاروخية التكتيكية قادرة على مواصلة العمل واستهداف شمال فلسطين المحتلة وصولاً إلى جنوب حيفا بكثافة أعلى من ما قبل هذه الجولة.
– بعد الهجمات الجوية التدميرية على الضاحية الجنوبية وما نتج عنها من عمليات قتل عشوائي لمئات المدنيين الحزب معنيّ بتفعيل معادلة بيروت مقابل تل أبيب والضاحية جزء من بيروت، بعيداً عن الرد على اغتيال قادته وفي مقدمتهم أمينه العام، وبناء معادلة الردع مجدداً. ويعرف حزب الله أن إعادة الاعتبار لها يشكل الجزء الأهم من شروط احتفاظ حزب الله بسلاحه تحت شعار حماية لبنان. وتفعيل هذه المعادلة الرادعة لا يعني الانتقال إلى حرب مفتوحة إلا إذا اختار الكيان ذلك، ولم ينفتح على معادلة وقف استهداف الضاحية مقابل وقف استهداف تل ابيب. لكن من زاوية أخرى وبالتوازي فإن حزب الله يبدو مستمراً بتوسيع دائرة الاستهداف نحو شمال فلسطين، لحشر الكيان المنتشي مع جمهوره بالإنجازات المبهرة، وإظهار حقيقة أن لا شيء تغير إلا مضاعفة عدد الصواريخ وعدد المهجرين، وأن لا حل واقعياً مع هاتين العقدتين المستعصيتين إلا بأحد طريقين، العمل العسكري البري أو الذهاب الى القبول باتفاق مع غزة، وبينما يرغب حزب الله بترجيح خيار الحرب البرية ليحظى بفرصة تقديم إبهار معاكس لما قدّمه جيش الاحتلال في عروض القوة النارية والأمنية، يبدو أن خريطة الطريق لبلوغ اللحظة الفاصلة عند حزب الله واضحة، وهي إفهام الرأي العام في الكيان الفرح بضربات جيش الاحتلال والمساند للحرب أن أمامه خطوة لا بد منها هي الضغط نحو العمل البري، بانتظار الفشل لينتقل إلى الانضمام لتظاهرات تل أبيب المطالبة بإنجاز اتفاق مع غزة ينهي الحرب على كل الجبهات، بينما لا يبدو أن الكيان قد اختار خريطة طريق معاكسة.

التعليق السياسي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى