مقالات وآراء

يوميات نازح… من الغرفة إلى الشرفة

علي بدر الدين

اتّصل بي صديقي “النازح” وسألني “أوّل شي إنت وين”؟ يعني في أيّ منطقة حطّ بك الرحال بعد معاناة رحلة النزوح؟ أجبته على سؤاله، ثمّ سألته و”إنت بأي “فندق أو شقّة مفروشة” أو منطقة اختارتها لك هيئة الطوارئ الإغاثية الرسمية التي شكّلتها حكومة التصريف”؟ ردّ: “هلّق وقت مزحك و”المسخرة”؟ “بس” فعلاً قصدتُ مركز الهيئة المعنية فأطلعني أحد الموظفين فيها على جدول مراكز الإيواء في المدارس الرسمية في بيروت ومناطق في الجبل والشمال، وقال لي بالحرف: “لك الحرية الكاملة في الإختيار”، فخرجت فوراً من المركز ورحت أبحث عن مأوى لعائلتي علّني أجدُ سقفاً نشعر تحته “بالاستقرار” المؤقت إلى أن يفرجها الله ونعود إلى قريتنا وبيتنا، وقد وجدته بفضل الأصدقاء و”أولاد الحلال”.
تمنيتُ له “إقامة سعيدة” على ألاّ تطول، وأطلعته بدوري على حالي وأحوالي وكيف أقضي يومي في النزوح والإقامة الجبرية والقسرية بكلّ بساطة و”فخر وأريحية” وقلت له كلنا في مركبٍ واحدٍ والمعاناة واحدة، وأشعر أنّ كلّ يومٍ لي خارج القرية والبيت وبعيداً عن الإصدقاء والجيران وذكريات “الزمن الجميل” وعن العادات اليومية التي كانت جزءاً من حياتي كأنه سنة، وقد تركت بيتي كما غيري من النازحين في عين العاصفة ومرمى طائرات العدو “الإسرائيلي” وصواريخها التي غدرت وقصفت ودمّرت بيوت الأصدقاء والأقارب وأبناء البلدة التي بنوها على مدى سنوات بالتعب وبدموع العين ولهم فيها أعز ما يملكون من ذكريات جميلة يعشقونها ومن أشياء صغيرة لها دلالات عظيمة في حياتهم وحياة أبنائهم، في البيت الذي يشعر فيه الجميع بسعادة وراحة نفسية و…
وقلت له أيضاً… منذ وطأت قدماي “النزل” الجديد منذ بعد ظهر الإثنين 23/9/2024 ولغاية اليوم لم أخرج منه أبداً، أقضي نهاري إمّا ممدّداً على “كنبة” أثرية حاملاً بيدي “مشغّل” التلفزيون المسمّى “ريموت” أبحث عن خبرٍ على شاشته علّه يعطيني جرعة تفاؤل باقتراب إعلان “وقف إطلاق النار” وبداية العدّ العكسي للعودة الميمونة إلى قريتنا وبيتنا وذكرياتنا وسلوكياتنا وجلساتنا ودجاجاتنا وقططنا، إلى المياه المقطوعة والكهرباء المدفوع ثمنها سلفاً من دون أن تأتي إلّا نادراً… إلى الأشياء الصغيرة جداً التي لها مكانة رفيعة بدواخلنا لا تقدّر بثمن…
أقضي نهاري “متمشّياً” في المنوَر الضيّق، متنقّلاً بين الغرفة والشرفة، والأسوأ أنني بتُّ أُدخّن السيجارة ولم أفعل هذه العادة السيئة منذ عقود، إنه الفراغ يا صديقي.
أعيش كما غيري من النازحين الموزعين على خريطة البلد روتيناً مدمّراً على أمل أن يأتي الفرج الذي يبدو بعيداً، وأتمنى أن أكون مخطئاً، وكما يُقال “ساعة من ساعاته بتقضي كلّ حاجاته”.
أمور كثيرة أودُّ البوح بها لكنني أخجل من ذكرها وقد أبدو بنظر البعض ضعيفاً ومنكسراً ومهزوماً وأنا لست كذلك ولا أرغب بالوصول إلى ذلك.
أراكَ يا صديقي قريباً في القرية إنشاءالله، اذا كان لنا بقية من عمر. دمتَ سالماً وإلى اللقاء…

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى