معادلات الردع وكيف ولماذا تغيّرت؟
ناصر قنديل
– يجب الاعتراف بأن صمود حزب الله واستعادة حضوره وقوّته وحيويته يعتبر بذاته انتصاراً، مع حجم القرار الأميركي الإسرائيلي بتحويل الحرب من صناعة توازنات جديدة تحكم مشاريع التسويات ووقف إطلاق النار، إلى حرب استئصال وتصفية حساب مع حزب الله واعتبار ذلك فرصة لإعادة الاعتبار لمفهوم بناء شرق أوسط جديد، بمعادلات جديدة عبر شطب حزب الله من المشهد الإقليمي، بالاستناد الى تفعيل الحزمة القاتلة التي أعدّها الأميركي خلال أكثر من عقد لملاقاة لحظة يقرر فيها أن الشرق الأوسط دخل المعادلة الصفرية، التي تقول إنه أمام خيارين هما، نصر كامل أو هزيمة كاملة، وإن نظرية تجميد الشرق الأوسط للتفرّغ لمواجهة روسيا والصين لم تعد تلبي احتياجات المرحلة.
– على كل متابع نزيه ومُنصف لمشهد الحرب التي يتصدّى لها حزب الله أن يعترف أن ما تشهده جبهات المواجهة في الجنوب، وما ينتج عنها من تفوق ميدانيّ للمقاومة بوجه كل حشود الآلة الحربية لجيش الاحتلال بحجم خوض حرب كبرى، وأن يعترف أن انتظام وثبات الرمايات الصاروخيّة على مستوطنات شمال فلسطين المحتلة ومواقع وقواعد جيش الاحتلال فيها، رغم قسوة الضربات التي تلقاها حزب الله على مستوى القيادة والبنية والبيئة بما فيها البنية الصاروخيّة في عمليّات قصف تدميريّ لم يتوقف لأسابيع متواصلة، هي أكبر تأكيد على أن منظومة القيادة والسيطرة لا زالت تعمل، وهي بخير.
– خلال الفترة التي رافقت الضربات المتلاحقة التي أصابت حزب الله وتوّجها اغتيال الأمين العام للحزب، وتضمنت تفجيرات أجهزة الاتصال والمناداة وقصف تدميريّ طال الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية ولا يزال، واغتالت العديد من القادة العسكريين الكبار والقادة الميدانيّين، عاش مؤيّدو المقاومة ومحبّوها قلقاً وجودياً على مستقبل المقاومة، بينما انتشى أعداؤها وعاش المتربصون بها على ضعفها، وكان أبرز ما شكل عامل ظهور التراجع، ليس مشهد الجبهة التي برزت فيها المقاومة باقتدار عند كل اختبار، ولا مشهد الصواريخ التي تترجم مفهوم جبهة الإسناد لغزة منذ سنة ولم تتوقف حتى في أصعب الظروف، لكن ذلك لم يمنع ملاحظة عدم تفعيل معادلة سبق للمقاومة أن وعدت بها وشكلت أحد مصادر قوتها والثقة بها، وهي معادلة الردع التي بني على وجودها استقرار لبنان خلال عقدين ماضيين، وكان المثال الذي يكرّره المحبّون بمرارة، ويتداوله الكارهون والحاقدون بشماتة، هو التساؤل عن معادلة تل أبيب مقابل الضاحية؟
– كانت قيادة المقاومة تدرك أنّها عندما قرّرت كسر قواعد الاشتباك القائمة خلال عقدين على جبهة الحدود الجنوبية لترجمة قرار فتح جبهة إسناد لغزة، أنّها تسقط مع قواعد الاشتباك معادلات الردع أيضاً، لأن هذه المعادلات مشروطة بحال الدفاع لا الهجوم، أي أن يكون الاحتلال هو المبادر في إطلاق النار وليس المقاومة. وعندما بدأ استهداف الضاحية وكانت المقاومة تتلقى الضربات المتلاحقة، كان واضحاً لها أن نجاحها بتحقيق الهدوء الداخلي حول قرارها بفتح جبهة الإسناد رغم الاعتراضات المعلنة، إنما يعود لنجاحها بتجنيب العمق اللبناني، أي العاصمة والمرافق الحيوية كالمطار والمرفأ والكهرباء، تداعيات هذا القرار، وتلقي التبعات في بنية المقاومة وبيئتها، بعدد ضخم من الشهداء والجرحى، وتدمير وتهجير عدد من البلدات والقرى ضمن الحزام الأمامي التي ينتمي سكانها إلى بيئتها الحاضنة. وكانت المقاومة تدرك أن تفعيل معادلة الضاحية مقابل تل أبيب سوف تفتح المجال لاستهداف العدوان للعاصمة والمرافق الحيوية للدولة اللبنانية، ما يعني انتقال البيئة السياسية اللبنانية من الهدوء الذي ساد لأحد عشر شهراً الى مرحلة من الانقسام الصاخب، الذي سوف يفرض معادلات جديدة في الحرب نفسها.
– ما جاء في كلمة نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم عن استعادة المقاومة حيويتها وقدرتها على التعامل مع الحرب بكل تحدّياتها، وتأكيده سلامة قدراتها الصاروخية وفعالية منظومة السيطرة والقيادة لديها، لم يُبقِ كلاماً مع نهاية كلمته، حيث لم يكد ينهي الكلام حتى انطلق أكثر من 100 صاروخ من طراز فادي 1 نحو حيفا وأحيائها السكنية والتجارية، وجاء بيان المقاومة للمرة الأولى لا يكتفي بالتوصيف التقليديّ، “دعماً لشعبنا الفلسطيني الصامد في قطاع غزة وإسناداً لمقاومته الباسلة والشريفة، ودفاعاً عن لبنان وشعبه، ورداً على الاستباحة الهمجية الإسرائيلية للمدن والقرى والمدنيين”، وقد بقي معمولاً بهذا التوصيف في كل بيانات المقاومة الإسلامية عن عمليات إطلاق الصواريخ، ليحل مكانه توصيف خاص بقصف حيفا وحدها، يقول “دعماً لشعبنا الفلسطيني الصامد في قطاع غزة وإسناداً لمقاومته الباسلة والشريفة، ودفاعًا عن لبنان وشعبه، ورداً على استهداف المدنيين في الضاحية الجنوبية، قصف مجاهدو المقاومة الإسلامية عند الساعة 12:30 من بعد ظهر يوم الثلاثاء 8-10-2024، مدينة حيفا والكريوت بصليات صاروخيّة كبيرة”.
– هذه المعادلة الجديدة التي تحتاج أياماً من الثبات من العمل بمقتضاها، والتداعيات الناجمة عنها، وقد بدأت بوادرها بالظهور في التهجير والقلق والتساؤلات عن مسار الحرب ومستقبل المدينة الثانية من مدن الكيان ومنشآتها الاقتصاديّة، سوف تحكم مستقبل الاستهداف للضاحية، وربما بمصير الحرب كلها ومسارها، وهذا ما يفترض أن يطمئن قلوب محبي المقاومة وأن يتسبّب بغيظ أعدائها وكارهيها، طالما أن المقاومة بألف خير وتعيد إحياء معادلاتها، وهي جاهزة للسير ضمناً بمعادلة تل أبيب مقابل بيروت، إذا تجرأ الاحتلال ليكون المبادر لاستهداف العاصمة، ومثلها المطار مقابل المطار والمرفأ مقابل المرفأ، والكهرباء مقابل الكهرباء، وتحتفظ المقاومة بذلك بموقعها الأصلي كمدافع عن لبنان، ويحفظ لها المناخ الداخلي المستقر، ويفتح الطريق لتفاعل معادلات الردع مجدداً مع ما سوف يقوله الميدان في الحرب البرية.