طوفان الأقصى في عامه الثاني
د. حسن أحمد حسن*
مضى عام كامل على انطلاقة الموجة الأولى من طوفان الأقصى، ولم يعد بالإمكان القفز فوق التاريخ، ولا حذفه من أجندة الزمن الذي لا يستأذن أحداً، ولا يتوقف عند آلام وأوجاع، ولا عند ويلات وكوارث، كما لا يتوقف عن أفراح واحتفالات، ولا عند إنجازات وانتصارات يحققها هذا الطرف أو ذاك، وإذا أراد المتابع العادي أن ينظر بموضوعيّة إلى العام المنصرم من عمر طوفان الأقصى بدلالاته السلبية والإيجابية بعيداً عن الأمنيات والرغبات، وعن كل ما له علاقة بالحرب النفسية والحرب على الوعي والأفكار، فالسؤال الذي يفرض حضوره على أجندة الجميع: ما النتيجة النهائية القابلة للتبلور والفهم، بعد أن تحوّل ما كان غامضاً بالأمس إلى أخبار روتينية تتناقلها وسائل الإعلام المختلفة، وتعجّ بها منصات التواصل الاجتماعي؟
قد لا يكون حجم مقال صحافي أو دراسة تحليلية تنشر في الدوريات الإعلامية كافياً لاستعراض شريط سريع من أحداث عام كامل، حتى لو تم الاكتفاء بذكر المحطات الرئيسة والدلالات الأكثر غنى وأهمية، ومع ذلك يمكن باختصار الإشارة إلى مجموعة من العناوين والأفكار التي قد تساعد على تقديم إجابة أولية على التساؤل المطروح، ومنها:
*انطلاقة الطوفان بالصورة التي حدثت، ووصول أمواجه وارتداداته إلى حيث تناقلته الصحف الإسرائيلية وبقية المنابر الإعلامية المعادية يؤكد أنه شكَّل مفاجأة صاعقة للكيان الإسرائيلي وكل مَن يدعمه، كما شكّل مفاجأة صادمة للوعي الجمعي المجتمعي داخلياً وإقليمياً ودولياً، ولم يكن ليخطر على ذهن أشدّ أطراف محور المقاومة يقيناً بالنصر أن الأمواج ستصل إلى ما حمله العام الماضي في حقائبه وهو يقلب الصفحة الأخيرة في روزنامة التأريخ الزمني المحسوب بالأيام والأسابيع والأشهر، كما لم يكن يخطر ببال أكثر أعداء الإنسانية إجراما أن المجازر والإبادة الجماعية الممنهجة قد تصل إلى ما أضحى صورة مألوفة اعتادت عيون المجتمع الدولي على تكرار رؤية وحشيته بما لا يمكن لإنسانية الإنسان قبوله أو التعايش مع تداعيته.
*وحدة الساحات وتواصل الجبهات التي أعلنتها أطراف محور المقاومة لم تسمح لها واشنطن بالتبلور المطلوب، بل عملت وبكل السبل لمنع اكتمال أطرافها ومدخلاتها إلا بالحد الأدنى الذي تستطيع تل أبيب التعامل معه والتعايش مع تداعياته، لكن وعلى الرغم من ذلك كانت النتائج المباشرة أكثر من مؤلمة، ونجحت في مشاغلة آلة القتل والإبادة والتدمير، ومنعت القتلة المجرمين من الاستفراد بالمقاومة في غزة، وهذا يفسر استمرار إطلاق الصواريخ من غزة مع بداية العام الثاني من عمر الطوفان.
*تكامل الهمجية والتوحش بين حرب الإبادة الجماعية وتدمير مظاهر الحياة ومقوماتها في غزة مع الخبث الأميركي والأطلسي، والنجاح النسبي في تخدير الرأي العام ومنح نتنياهو وجوقة حربه التدميرية العنصرية المزيد من الوقت عبر مهل زمنية متعدّدة ومتكرّرة بذريعة قرب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وتقليل فاعلية وحدة الساحات إلى الحدّ الأدنى، وإشغال كلّ طرف بالتفرغ إلى الجبهات المشتعلة تباعاً، فتكفلت أميركا وبريطانيا ومن معهما بالرد على المتغيّر الجيوبولتيكي اليمني، ومحاولة احتواء تداعياته الأولية، وتفرغ جيش الاحتلال للقضاء على المقاومة والمقاومين في غزة، ونقل التدمير إلى الضفة، ومحاولة استنساخ التجربة بوحشية أكبر ضدّ لبنان.
* في المقابل نجحت أطراف محور المقاومة في إبقاء الداخل الإسرائيلي تحت التهديد والخطر، وفي حالة اضطراب وقلق وتوتر، واستطاعت بعض صواريخ المقاومة وطيرانها المسيّر الوصول إلى تل أبيب ومحيطها، مع الأخذ بالحسبان أن توسيع دائرة الاستهداف كان من أطراف عدة: اليمن ـــ حزب الله ـــ المقاومة العراقية ــ إيران، بغض النظر عن أن الأكثر فاعلية وتأثيراً من تلك الصواريخ والمسيرات المقاومة لم يكن في إطار المساندة، بل جاء في إطار الرد على حرق كل الخطوط الحمراء، وتهديم كل السقوف المتوقعة للإجرام والتوحش «الإسرائيلي».
*قدرة أميركا ومَن معها على فرض شبه صمت دولي عن جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها الكيان الإسرائيلي على مدار الساعة، ومصادرة الفعالية التي يمكن البناء عليها من أية تحركات دولية شعبية كانت أم رسمية، والعمل على تفريغها من نتائجها المباشرة لتبقى أقرب ما تكون إلى الصرخة في الوادي، وهذا يعني قطع الطريق على تبدّل اتجاه بوصلة الرأي العام، ومنع الوصول إلى نتائج واقعية تصلح للبناء عليها، وبالتالي تحقيق بعض النجاحات على المستوى التكتيكي، ومراكمة الإخفاق الاستراتيجي الذي يحتاج إلى وقت أطول للتبلور، فإحالة نتنياهو وغالانت وغيرهما إلى محكمة العدل الدولية ليس أمراً عادياً يمكن تغطية مآلاته المستقبلية، وتبدل الرأي العام في العديد من الدول وخروج التظاهرات الكبيرة في المدن الرئيسة والجامعات يشكل تحدياً استراتيجياً يتجاوز الكيان، ليطال سطوة النفوذ والهيبة الأميركية، وهذا يبقى قابلاً للاشتعال في أي لحظة كالجمر تحت الرماد، أي هناك إخفاق نوعيّ وكبير على الصعيد الاستراتيجي.
*تعامل إدارة بايدن سياسياً وعسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً وإعلامياً مع الطوفان منذ السابع من تشرين الأول من العام الماضي وحتى تاريخه يؤكد أن نتنياهو مطمئن لحتمية تعويض أي خسائر تلحق بجيشه وكيانه، لأن حرب الإبادة التي يرتكب جرائمها أميركية قبل أن تكون إسرائيلية، وبالتالي الكيان مستمرّ بهذه الحرب نيابة عن أميركا، وليس العكس، أو على الأقل هو الطرف الذي أوكلت إليه مهمة التنفيذ مع ضمان تأمين كل المستلزمات وبسقف زمني مفتوح.
*رفع سقف التوحّش والإجرام ضد الضاحية الجنوبية لبيروت وبقية مناطق انتشار المقاومة أتى بعد أن تمّ النجاح المؤقت في تخدير الرأي العام العالمي، واعتياد العقل الجمعي على رؤية التدمير والقتل والإجرام والإبادة ضد الوجود الفلسطيني على امتداد قرابة عام. وهذا يعني التدرج والاستمرار في توسيع رقعة التدمير الشامل كلما اعتاد الناس على التعامل مع الإفراط في استخدام القوة على أنه جزء من طبيعة الكيان القائم أصلاً على القتل والإجرام وارتكاب المجازر التي يندى لها جبين الإنسانية، ولو شهد العالم حراكاً موضوعياً يتناسب مع مستوى الإجرام بعد مجزرتي تفجير أجهزة البيجر واللاسلكي لما عمدت تل أبيب إلى رفع مستوى استهداف الضاحية بشكل غير مسبوق، لكن عجز المجتمع الدولي عن الفعل تجاه جرائم تهدّد كل دول العالم أعطى واشنطن مزيداً من الثقة بقدرتها على شل إرادة المجتمع الدولي عبر رفع سقف التهديد والوعيد بالأساطيل البحرية والجبروت العسكري التدميري وإيصال رسائل شديدة الوضوح بأن الدولة العميقة المتحكمة بالقرار الأميركي لا تقيم أي وزن للعالم كله، ولا يعنيها أن يتم إفناء نصف البشرية أو أكثر لضمان استمرار تفردها بالأحادية القطبية الكونية، واللغة الوحيدة التي يمكن أن تغيّر معالم هذه اللوحة هي اللغة التي يستخدمها اليمن المقاوم وإصراره على إغلاق البحر الأحمر في وجه السفن الإسرائيلية والأطلسية وكل من يريد التوجه إلى الموانئ الصهيونية، ويبدو أن العالم وإن كان غاضباً من استراتيجية دبلوماسية البوارج والأساطيل وحاملات الطائرات والمدمرات والغواصات إلا أنه ما يزال أقل قدرة على تحمل مسؤولية اتخاذ مواقف تحاكي الموقف اليمني.
*استخدام أحدث الأسلحة الأميركية ذات الطاقة التدميرية بحدودها القصوى لاغتيال سماحة السيد حسن نصر الله وعدد آخر من قادة المقاومة من الصف الأول، وهذا يضع جميع أقطاب محور المقاومة والعالم كله أمام تهديدات وأخطار وجودية، فما حدث يمكن أن يتكرر في أي دولة، ولا شك في أنّ الردّ الإيراني في عملية الوعد الصادق 2 قد خفف من حدة جنون العظمة بعض الشيء، لكن أخطاره ما تزال قائمة وكبيرة، والنزعة الطاووسية التي تظهر على نتنياهو وفريق عمله الإجرامي هي انعكاس مباشر لما يصلهم من واشنطن الحريصة على رفع السقوف والتظاهر بالحرص على التدخل لمنع اندلاع الحرب الشاملة في المنطقة.
*ما أصاب أطراف محور المقاومة مؤلم وقاسٍ، لكن وعلى الرغم من كل ذلك يمكن القول: صحيح أن استشهاد القادة خسارة فادحة للمقاومة، لكنها ليست مميتة، بل إن الوفاء لدماء القادة الشهداء يعني حمل تلك الدماء الطاهرة برجولة وأمانة، وإتمام تأدية الرسالة التي استشهدوا في سبيلها، وهذا ما يجسّده رجال حزب الله في الجنوب اللبناني على امتداد جبهات المواجهة، ولن يكون نصيب أي محاولة للاختراق البرّي إلا المزيد من القتلى والخسائر في صفوف القوات المهاجمة مهما ارتفعت سقوف التوحّش والإجرام، فالمقاومون هناك متجذرون في أرض الجنوب وجزء من ترابه وصخوره وأشجاره، والعقيدة القتالية الجهادية التي يحملونها كفيلة بقلب الأرض رأساً على عقب قبل أن تطأها أقدام أي قوات تكلف بالاقتحام البرّي مهما كان حجمها، ومهما كانت القوة النارية والطاقة التدميرية للأسلحة التي تملكها.
*كلّ ما تستطيع أميركا وحلفها العدواني فعله ضد محور المقاومة قد فعلوه، وليس هناك من شيء قابل للاستخدام لتهديد المقاومة التي يمثل استمرارها بأدائها الميداني حتى الآن إعجازاً بالعسكرة والإرادة، في حين لدى أطراف محور المقاومة الكثير مما لم تستثمر به بعد، وقدرة الكيان الإسرائيلي على الاستمرار في تحمل التداعيات المتراكمة والمتلاحقة في تآكل وانحسار وليس العكس، بغض النظر عن أن مرور عام جعل الداخل الإسرائيلي يتحمل ما لم يعتد على تحمله منذ إنشاء الكيان، لكن الاستمرار في هذا الوضع قد يحمل انهياراً دراماتيكياً في أي لحظة، وما ارتفاع معدلات الهجرة المعاكسة إلا الدليل الأقرب لتوضيح معالم المستقبل القريب.
*التهويل بأخطار اشتعال المنطقة جزء من الحرب على كيّ الوعي، فمنذ تفجيرات أجهزة البيجر واللاسلكي والجميع في أتون هذه الحرب التي تدّعي إدارة بايدن أنها حريصة على تجنّبها، في حين تعمل ميدانياً لفرضها على الجميع لكن بشكل متدرّج، وقد يكون هناك من لا يرى أي جدوى استراتيجية من محاولة تفادي الخسائر التي قد تفوق طاقة الجميع على التحمل في حال اشتعال المنطقة. فالخسائر التي يتمّ تحمّلها بالمفرق تبقى أقل من الخسائر بالجملة التي يحملها انفجار المنطقة واشتعالها، وكل إطالة لأمد هذا الواقع المفروض والمتناقض مع كل ما له علاقة بإنسانية الإنسان يعني دفع الخطر العاجل بالأخطار الآجلة الأكثر فداحة وكارثية وعلى شتى الصعد والمستويات، ولن تقف تداعياتها عند حدود المنطقة قط.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية