استشهاد السيد نصر الله… والطريق إلى القدس
د. جمال زهران*
نزل خبر إعلان استشهاد سماحة السيد حسن نصر الله (الأمين العام لحزب الله)، كالصاعقة عليّ، حيث كان أملي حتى آخر لحظة وكتبت ذلك من واقع ما وصلني، أنه لا يزال حياً، ولم يُصِبه سوء، وأنه في مكان آمن، بل إنه لم يكن موجوداً أصلاً، في المكان الذي استهدفه جيش الكيان الصهيوني، ودمّره بما يقرب من 100 طن من المتفجرات (القنابل المدمّرة) باستخدام أحدث أنواع الطائرات الأميركية (F15, F16, F35)، إلا أن إعلان الخبر عن حزب الله بنفسه، ظهر يوم السبت 28 سبتمبر/ إيلول 2024م، وفي بيان رسمي، أنّ السيد حسن، قد استشهد، إثر الغارة الصهيونية، أحدث زلزالاً في داخلي، لدرجة أفقدتني الإحساس بالحياة، التي أضحت عندي بسماع هذا الخبر المفاجئ وغير المتوقع، والعدم سواءً.
ومكثت أعيش في كلماته المؤثرة، وفي طريقة الإلقاء، وقدراته البلاغية، وأسلوبه الشعبويّ في تعبئة الجماهير، وقد كان يذكرنا دائماً بالزعيم جمال عبد الناصر، حتى أنه من شدة التشابه في الزعامة والتأثير، أن جاء موعد استشهاد الزعيم حسن نصر الله، في يوم استشهاد جمال عبد الناصر ذاته، وهو (28 سبتمبر/ أيلول)، ليتأكد عند عموم جماهير الشعب العربي، أنّ السيد حسن، كان امتداداً لجمال عبد الناصر، في تأصيل العروبة والإسلام. وقد صاحب ذلك، هروب النوم، ونسيان التعب والإرهاق الجسديّ، لأني كنتُ على سفر طوال النهار في الجامعة، مع بدء العام الجامعي الجديد، ومناقشة رسالة ماجستير لأحد الطلاب الجادّين.
تلك هي الحالة النفسية لي، عند وقوع الخبر وإذاعته، ولا تزال عندي حالة عدم التصديق لما حدث، إلا أنّ كلمات السيد حسن، والتي تذيعها قناة «الميادين»، وقناة «المنار» باستمرار، كانت هي البلسم، لتهدئتي نفسياً، حتى استطعت أن أمسك بالقلم وأكتب. وقد استمعت إلى كلمتين، كان لهما وقع طيب في نفسي. الكلمة الأولى كانت للشيخ نعيم قاسم (نائب الأمين العام)، بعد إعلان خبر الاستشهاد بيومين، حيث تضمّنت التعزية والتأبين لسماحة السيد حسن، بكلمات.. قال فيها: (الأخ والصديق والأب والرفيق، والمجاهد والقائد والمقاتل والشجاع…)، وبتأثر شديد للغاية، كما تضمّنت كلمته قبول التحدي والاستمرار على النهج نفسه الذي استمر (32) عاماً، وأنه لا تراجع عن السياسة ذاتها (قيد أنملة)، الأمر الذي أحدث هدوءاً نفسياً كبيراً في داخلي، ولو لم أكن حزيناً، لقمت على الفور «أرقص» طرباً لهذه الكلمات. فقد كنتُ استشعر الأمل والتفاؤل لمجرد أن أسمع صوت السيد حسن، وأنتظر سماع خطبه جميعاً، بأنّ طريق القدس قريب.. ومفروش بالشهداء. كما قال الشيخ نعيم قاسم، في كلماته أننا جاهزون لمواجهة العدو الصهيوني، إذا ما قرّر الدخول البريّ للحدود اللبنانية، أو التفكير بذلك، دفاعاً عن لبنان وشعبه الذي يمثل البيئة الشعبية الحاضنة للمقاومة اللبنانية.
ولم تمضِ ساعات، حتى انطلقت الصواريخ في كلّ أنحاء الكيان الصهيونيّ، ضاربة ومؤثرة، من المقاومة اللبنانيّة بقيادة حزب الله. وازداد يقيني أنّ السيد حسن، لم يرحل إلا جسداً فقط، واستمرّت استراتيجيّته في المقاومة ضدّ الكيان الصهيوني. ورغم مضيّ عشرة أيام (عند نشر المقال)، إلا أنّ المواجهة العسكرية ازدادت وتيرتها أضعافاً مضاعفة، عما كان سائداً في عهد السيد حسن، وهو الأمر الذي يدعو للاطمئنان. ووقع التدخل البري الصهيوني، ومضت أيام، لم يستطع اختراق خط الحدود اللبنانية مع الشمال الفلسطيني المحتل، بل تم إيقاع خسائر بشرية ومادية ضخمة في صفوف العدو الصهيوني، وصلت لما يقرب من (100) قتيل، (200) مصاب، والأعداد تتزايد!
أما الكلمة الثانية التي كان لها وقع التأثير في نفسي، فقد كانت للسيد علي خامئني (مرشد الثورة الإيرانية)، يوم الجمعة 4 أكتوبر (تشرين الأول)، حيث تواجد مباشرة وخطب الجمعة، الأولى باللغة الإيرانية، والثانية باللغة العربية، ببلاغة وهدوء ووضوح، ثم أمّ المصلين وأدّى صلاة الجمعة، وسط حشود شعبية غير مسبوقة. وقد كانت كلماته في الخطبة الثانية، في الإشادة بالسيد حسن نصر الله، وقال الكلمات بتأثر شديد، وخاطبه بالحبيب والصديق، والشجاع والوفيّ والقائد، والرجل المحبوب شعبياً في المنطقة العربية وفي لبنان، بل وفي إيران، وهو ما لا يتوفر لأيّ شخص آخر. إلا أنه قال إنّ إيران قامت بضرب الكيان الصهيوني ضربة موجعة يوم الأول من أكتوبر، وإنّ أيّ تفكير في الردّ بشكل محدود ستكون ضربات إيران كنس وتدمير الكيان الصهيوني كاملاً، في تهديد صريح للكيان، ولأميركا. كما أكد أنّ رسالته تمّ إبلاغها لأميركا لتفادي التصعيد أكثر من ذلك، وأنّ هذه الضربة كانت ثأراً لاغتيال السيد إسماعيل هنية، والسيد حسن نصر الله، والسيد نائب قائد الحرس الثوري، الذي كان برفقة السيد حسن، عندما قام الكيان الصهيونيّ باغتياله، واستشهد معه، أيضاً.
هاتان الكلمتان، للشيخ نعيم قاسم، وللسيد خامئني، اللتان، أدخلتا الهدوء النفسي لي، حيث اطمأننت على استمرارية المقاومة ضدّ الكيان الصهيوني، واستمرار دعم وتأييد جمهورية إيران الإسلامية للمقاومة، وللشعب الفلسطيني وللشعب اللبناني، وأنّ إيران لن تتخلى عن محور المقاومة، حتى تحرير فلسطين والقدس.
كما مكثتُ أعيش، مع كلمات السيد حسن نصر الله، وكأنه كان يتنبّأ بقرب الرحيل الجسدي، حينما قال: «لن تتوقف حركة يستشهد أمينها العام، ولن تتراجع، ولن تعود للخلف، بل ستحمل الحلم والأمل، وتتقدّم إلى الأمام، وستتقدم إلى القدس وإلى فلسطين…». كما قال إنه «لا يجوز أن ننهزم لسقوط قائد عظيم في الميدان، بل علينا أن نحمل أمله وأهدافه، ونحمل روحه من أجل التقدم إلى فلسطين، وإلى القدس، بل إنّ الاستشهاد هو العشق للقاء الله».
كما أكد أنه «لا يجب أن نيأس.. لأنّ اليأس من شيمة الجبناء والخونة، بل لا يمكن أن نسمح لليأس بأن يتسلل لعقولنا وقلوبنا». وهو الذي قال: «إنّ الكيان الصهيوني (إسرائيل)، أوهن من بيت العنكبوت»، وقال أيضاً: «عندما نلحق الهزيمة بالعدو، فهو انتصار.. وعندما نستشهد… فنحن ننتصر أيضاً»، بعبارة أخرى: قال عندما ننتصر على العدو ننتصر، وعندما نستشهد ننتصر». وهو الذي قال أيضاً: «الخبر هو ما ترون.. وليس ما تسمعون»، وقال مخاطباً العدو الصهيوني: «إذا جاءت دباباتكم إلى لبنان أو جنوب لبنان، فلن تعانوا من نقص في الدبابات، لأنكم لن تبقى لكم دبابات أصلاً..»، وهو الذي قال بشكل حاسم: (الأيام.. والليالي.. والميدان) هي الفيصل في مواجهة العدو الصهيوني، حيث إنّ الميدان هو الذي سيتكلم كما قال وأكد سماحته في أكثر من خطبة.
لقد تابعت كلمات سماحة السيد حسن نصر الله، في اليوم التالي لطوفان الأقصى، الذي وقع في السابع من أكتوبر 2023م، واستطعت استخلاص جميع الوقائع التي حدثت بالضبط، من واقع التحليل السياسي لخطب السيد.
سماحة السيد حسن نصر الله، لقد رحلتَ جسداً فقط، واستمرت وستستمر روحك، التي تأصّلت في كل مقاوم، وملهمة لنا جميعاً. لقد أدّيت رسالتك بكلّ أمانة وشجاعة، ورمزاً للمقاومة المخلصة والأمينة على أحلام وأمنيات شعبنا العربي والإسلامي، شكراً لكم…
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة قناة السويس، جمهورية مصر العربية