أولى

الهروب الكبير وانهيار الكيان الصهيوني…

‬ د. جمال زهران*

ظنّ العدو الصهيوني ـ ولا يزال ـ أنّ مجرد اغتيال قيادات المقاومة وحتى الرأس، كما حدث باغتيال السيد إسماعيل هنية (رئيس المكتب السياسي لحركة حماس)، أو باغتيال السيد حسن نصر الله (الأمين العام لحزب الله)، وقيادات تالية لهما، سواء في حركة حماس، أو في الحزب، سوف يؤدّي إلى تفكيك المقاومة، وإضعافها، وارتباكها، حتى زوالها! وهذا ظنّ خاطئ، بل إنّ خيار الاغتيالات، لا هدف من ورائه إلا استعراض القوة أمام الأطراف المتصارعة مع العدو، وإشاعة التخويفات والذعر عند هؤلاء، بل تبيان أنّ الكيان الصهيونيّ هو صاحب اليد الطولى في الإقليم، ولا يمكن لأيّ طرف أن ينفذ ذلك، سواه، وبالتالي فإنّ مطلب العدو الصهيوني، هو ضرورة الخضوع والاستسلام…!
الحقيقة أنّ الذي يخاف هم فقط الأنظمة العربية الرسمية، التي تخشى أن تطولها الاغتيالات بسهولة، أما الذي لا يخاف فهم رجال المقاومة أياً كان الاسم والصفة، لأنهم ببساطة، يتّسمون بالشجاعة والقدرة على الإقدام، والإخلاص لفكرة المقاومة، وعدم الخوف من الموت، لإيمانهم بحياة واستشهاد وضمان موقع حقيقيّ في الجنة، وهو غير الموجود عند القتلة من العدو! فمصيرهم ببساطة في نار جهنم. كما أنّ الاعتقاد في الحق هو اعتقاد في شرعيّة المقاومة، وهو قناعة بالدفاع عن الوطن المغتصب والمحتلّ، وأنّ واجب أصحاب الحق، أن يحرّروا أوطانهم، وبذل الجهد والروح من أجل ذلك. ومن ثم فإنّ ظهور العدو الصهيوني، باعتباره صاحب اليد الطولى، باغتيال الشخصيات الأولى، هو ظهور بالغرور، وشعور بالهزيمة، فيبحث عن نصر زائف عن طريق التخويف وإثارة الرعب، على أمل تحقيق النصر النهائي. إلا أنّ الواقع شهد أنّ ذلك الخيار باتباع سياسة الاغتيالات، هو خيار فاشل، وأسهم في تزايد معدلات المقاومة أضعافاً مضاعفة، مقارنة بما كان سائداً قبل اغتيال القادة الكبار، حتى أنّ القادة الخلفاء لهم، الآن هم أشدّ بأساً، وأشرس في المقاومة، ولا يخجلون من تصعيد المقاومة بكافة السبل، بلا سقف، بلا قواعد، ولا حدود.
وقد رأينا ذلك مترجماً في غزة، وفي الضفة الغربية، وفي جنوب لبنان، حيث أنّ حزب الله أعلن قدرته على مجابهة الهجوم البري للكيان على الحدود اللبنانية، وقدرته على ضرب كلّ المدن الصهيونيّة، في مدن: إيلات العاصمة، وفي حيفا ومينائها، وفي عكا، وغيرها من مدن محتلة في الكيان الصهيوني. وقد مضى نحو أسبوعين من الهجوم الصهيوني على لبنان، بهدف الغزو الأرضي، واحتلال الجنوب اللبناني، لفرض شروطه وإجبار الحزب على التراجع عن المقاومة، والاستسلام، إلا أنه وجد المقاومة العنيفة من الحزب، حيث لم يتمكّن نهائيّاً من تجاوز خط الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، ما يحول دون النجاح أو تحقيق أهدافه التوسعيّة وإظهار القوة، ولم يجد سوى الفشل الذريع حتى الآن.
نحن إذن، أمام كيان صهيونيّ، مفكك، وفي مربع الانهيار الكامل، ومؤشرات ذلك كثيرة، وسبق الحديث والكتابة فيها طوال عام كامل، بين 7 أكتوبر 2023م – 7 أكتوبر 2024م. ولعلّ ما يلفت نظرنا، ونظر الكثير من المحللين الجادّين، هو ذلك الهروب الكبير للصهاينة المستوطنين في أرض فلسطين المحتلة، إلى الخارج، بل والداخل أيضاً. ويتّضح ذلك في ما يلي:
ـ أجمع كثيرون على أنّ عدد الذين هاجروا من الكيان إلى الخارج، والأغلب إلى أميركا وأوروبا وكندا، بصفة أساسية، نحو (1,5) مليون مستوطن. والمتابع لمطار بن غوريون، يدرك ذلك، رغم أن ليست هناك إحصائيّات رسمية من سلطة الكيان الصهيوني. فهي معلومات تتابعها الصحف الكبرى، ووكالات الأنباء العالمية المشهورة، والموثوق بها غالباً. كما أنّ هناك تسريبات من داخل دائرة الإحصاء داخل مطار بن غوريون الأساسي، بالإضافة إلى المستوطنين الذين يهربون كالفئران عبر الموانئ البحرية على البحر المتوسط أساساً، وأغلب هؤلاء، وتصل النسبة إلى 80%، هاجروا بلا عودة مرة أخرى.
ـ جرى العديد من استفتاءات الرأي العام في داخل الكيان، وبين سكانه المستوطنين، وتبيّن من خلال النتائج أنّ ما لا يقلّ عن الثلث (35%)، يميلون إلى السفر والعودة إلى بلادهم الأصلية، وبلا عودة مرة أخرى. وقد أوضحوا الأسباب، بأنّ افتقاد الأمان، وعدم الاستقرار، وعدم قدرة الحكومة الصهيونية، التي أضحت غير قادرة على توفير ما وعدت به المستوطنين. كما أنّ حالة الحرب التي يُصرّ النتنياهو، وعصابة حكومته، على استمرارها، جعلت الصهاينة المستوطنين، في سبيلهم إلى المغادرة بلا عودة!
ـ كما أنّ الأهمّ في المشهد، هو ذلك القرار الذي اتخذه الرئيس الروسي بوتين، وتضمّن بُعدين، الأول هو الموافقة على عودة المواطنين المهاجرين الروس الذين يعيشون في الكيان الصهيوني، وقد بلغ عددهم (1,5) مليون ونصف، والحفاظ على جنسيّتهم الأصلية، وإسقاط جنسيّة الكيان، بشرط العودة العاجلة. أما البعد الثاني فهو إسقاط الجنسيّة عن الروس اليهود الذين يعملون كطيّارين ويشاركون في قتل الشعب الفلسطيني في غزة، وقتل الشعب اللبناني، ما لم يتوقفوا ويعودوا إلى بلادهم الأصليّة، وهي روسيا.
ولا شك في أنّ هذا القرار مهمّ وخطير، ويحتاج إلى مجهود عربيّ وإسلاميّ كبير، للحفاظ عليه وتنفيذه، لما له من تداعيات خطيرة، على استمرار سوء العلاقة بين روسيا الاتحادية، وهي دولة عظمى، وبين الكيان الصهيونيّ، بل سيُسهم في تفريغ الكيان من نسبة كبيرة من عدد سكانه وتعادل (25%) من إجمالي السكان.
وفي ضوء إعادة هيكلة العامل أو البناء الديموغرافي داخل الكيان الصهيونيّ، حيث (1,5) مليون هجرة بلا عودة غالباً + (1,5) مليون مهجّر روسيّ بقرار رئاسي، يصبح العدد (3) ملايين، وهو ما يمثل ما يقرب من النصف المكوّن للخريطة الديموغرافية، فإنه يتأكد أن الكيان دخل مرحلة الانهيار الكامل، والأمر هو مجرد مسألة وقت.
أما التهجير القسريّ الداخليّ من نتاج السابع من أكتوبر (طوفان الأقصى)، فهو هجرة ما يزيد عن (200) ألف مستوطن صهيونيّ من داخل غلاف غزة، ولا تزال الأمور كما هي، ولم يعُد المستوطنون مرة أخرى، بسبب استمرار المقاومة الفلسطينية الجبارة. كما أنّ الشمال الفلسطيني (جنوب لبنان)، نتيجة فعاليّة جبهة المساندة بقيادة حزب الله، واستمرار المعارك طوال العام، فإنّه قد نتج عن ذلك تهجير قسريّ (إجباريّ) للمستوطنين الصهاينة، بلغ عددهم نحو (300) ألف مستوطن، وسط إصرار من حزب الله، على ألا يعودوا مرة أخرى، إلا بعد توقف حرب الإبادة الصهيونيّة ضدّ غزة، وانسحاب قوات جيش الاحتلال منها بشكل كامل. وقد استشهد السيد حسن نصر الله الذي أطلق مقولته هذه (لا عودة لمستوطني الشمال)، فقد أتى بعده نائب الأمين العام (الشيخ نعيم قاسم) الذي أكد المقولة نفسها منذ عدة أيام، تأكيداً لاستمرار السياسة والعقيدة.
وبإجمال الهروب الكبير من غلاف غزة والشمال الفلسطيني المحتلّ، يتضح أنّ هناك نحو نصف مليون مستوطن هربوا، إلى الداخل الصهيونيّ، بما يمثل من ضغوط شديدة على حكومة العصابة الصهيونيّة، ومؤداها الفشل الذريع في إدارة أمور الكيان، الذي دخل إلى مربع الانهيار.
فبين ثلاثة ملايين، هاجروا ويهاجرون حالياً إلى بلادهم الأصلية وبلا عودة، وبين نصف مليون هجرة قسرية داخلية، وكلّ ذلك بفعل عملية طوفان الأقصى، يتأكد لنا، أنّ الكيان الصهيوني، ينهار من الداخل بفعل الهروب الكبير الظاهر للعيان، ومَن لا يراه فهو الأعمى…

*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة قناة السويس، جمهورية مصر العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى