أولى

الكوميديا الأميركية دائماً سوداء…!

سعادة مصطفى أرشيد*

ما يبدو من حيث الشكل والمظهر أنّ الحرب اليوم سواء على غزة أم على لبنان لم تعد حرباً تحمل مضامين سياسية بالمفاهيم والطرائق المعروفة للحروب، اذ انها اصبحت مقتلة ومجزرة مستمرة تستهدف المدنيين بشكل خاص، وكأن هدفها هو إبادة السكان وقتل إمكانيات الحياة، وذلك بوضعهم أمام ثلاثة خيارات الموت قتلاً أو الهروب والهجرة أو العيش بذلّة وهوان في خدمة العدو، كما سبق أن ورد في خطبة وزير المالية (الإسرائيلي) والتي أصبحت جزءاً من برنامج الحكومة الحالية ونراها اليوم قد أصبحت خطة خريطة الطريق في إدارة الحرب السياسية والعسكرية، ولكن قراءة أكثر تأنياً للأداء الإسرائيلي تكشف عن أهداف سياسيّة لا بل الدخول في مرحلة جديدة وخطيرة.
وصل الأمر بالجرائم التي يرتكبها الاحتلال إلى حد الفضيحة، ولكنه أمر لا يشغل بال رئيس الحكومة (الإسرائيلية) الذي يرى أن أمامه تحديات وجود وبقاء وهو يدرك أن دولته منذ بداياتها قد اعتمدت أسلوب القتل والمجازر في دير ياسين وكفرقاسم الفلسطينيتين وفي بحر البقر المصرية وفي قانا لبنان. ولما كان قتل المواطنين المدنيين واستهدافهم هذا لا يتمّ بقرار ميداني من ضابط يقود سرية جنود وإنما بأمر وقرار حكوميّ من أعلى مستوى. وهذا كما سلف يعود في بدايته إلى طبيعة المشروع العنصري الإحلالي، ولكنه أيضاً يُظهر المرامي والأهداف السياسية التي تقول:
أولاً: إن لا تعايش بين هذا المشروع وأمتنا ولا إمكانية لعقد سلام حقيقي ولا موهوم. وهذه الأرض لا تتسع لنا ولهم، فإما هذا وإما ذاك.
ثانياً: إن المشروع اليهو – صهيوني مهدّد تهديداً وجودياً لذلك فهو لا يلقي بالا لأي أعراف أو قوانين دولية وإنسانية إضافة إلى يقينه أن لا عقوبات جدية ستفرض عليه.
ثالثاً: إن هذا المشروع يتلقى الدعم الغربي منذ إنشائه قبل قرن ونيّف وتضاعف بعد إعلان الدولة قبل سبعة عقود وبقي مستمراً حتى اليوم، وذلك كي يقوم بوظيفته في تفتيت آلامه وبأن يكون مخلب القط الغربي الاستعماري في مواجهتها، وهو إنْ ضعف وعجز عن القيام بالعمل المطلوب منه، فسرعان ما سيتمّ التخلي عنه، لذلك فهو يبذل أقصى ما لديه من قوة وقسوة ليثبت لمشغّليه صلاحيته للاستمرار في وظيفته وبالتالي بقائه.
رابعاً: إن الشرق الأوسط الجديد الذي يتحدّث عنه بنيامين نتنياهو يحتاج تنفيذه إلى مقادير عالية من القسوة والدمويّة وهو يختلف عن الشرق الأوسط الذي أقامه الثنائي الإنجليزي الفرنسي إثر هزيمة الدولة العثمانية، والذي اعتمد الجغرافيا والخطوط المستقيمة في تفتيت بلادنا وتقسيمها وجعلها كيانات، ثم خلق هويات فرعية لهذه الكيانات. أما الشرق الأوسط الجديد الذي يريده بنيامين نتنياهو والغرب فسوف يضيف الى التقسيمات الجغرافيّة القديمة تقسيمات جغرافية أخرى جديدة، ولكن على قواعد تقسيم ديموغرافي سكاني وصولاً إلى قيام الكيانات والدويلات الطائفية والإثنية والقبائلية.
يحاول نتنياهو تحقيق أقصى استفادة ممكنة من حالة الفراغ القائمة بسبب الانتخابات الأميركية وهو يملك من الآن قرابة أربعة شهور لحين ظهور نتائج الانتخابات ثم تسلّم الرئيس الجديد منصبه، في ما لا يملك الأميركي اليوم إلا الطلب من نتنياهو تمرير بعض المساعدات الغذائيّة لغزة مقرونة بتهديد جاء على شكل كوميديا سوداء وذلك باتصال وزيري الخارجية والدفاع مع نظيريهما في تل أبيب يطلبان منهما التخفيف من استهداف المدنيين، وإلا فإن الإدارة الأميركية ستوقف بعد شهر من ذلك الاتصال إمداد (إسرائيل) بشحنات الأسلحة، ولكن تتواصل الكوميديا لتقول إن بعد هذا الشهر لن يكون لا وزير الخارجية ولا وزير الدفاع في منصبيهما، وهما إن بقيا لحين تشكيل الإدارة الأميركية الجديدة فلن يكونا الا وزيري تصريف أعمال لا وزيريا عمل بسياسات أو إصدار قرارات مهمة.
نتنياهو الذي يتابع معركة الانتخابات الرئاسية الأميركية بالقدر ذاته من الاهتمام الذي يتابع به حربه المجنونة على الفلسطينيين واللبنانيين، ولكنه يعرف في النهاية أن المرشحين هما اثنان فقط، إن فاز ترامب فسوف يمضي معه في التصعيد مع كامل المحور وخاصة مع طهران التي يعتبرانها رأس الأفعى، أما في حال فوز كاميلا هاريس فلا شيء سيتغيّر بما يتعلق بالدعم الأميركي غير المحدود وستكون سنوات رئاستها استمراراً لسنوات بايدن البائسة.
هذا كله والحرب تسير (إسرائيلياً) بلا ضوابط وبلا قواعد اشتباك. فدائرة الحرب تتسع وتشمل كامل غزة وكامل لبنان وصولاً إلى زغرتا في الشمال، في حين لا زالت المقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية ملتزمتين بكثير من الضوابط وعلى رأسها عدم استهداف المدنيين إلا بالصوت الكفيل بدفع مليونين منهم الى الملاجئ… ويتساءل المواطن إلى متى ستبقى مقاومتنا ملتزمة بقواعد الاشتباك هذا من طرف واحد؟

*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى