هل أخطأ «الإسرائيليون» في تقدير قوة حزب الله؟
عامر نعيم الياس*
أربعون عاماً على الحرب المتواصلة بين حزب الله والكيان الصهيوني، بهذه العبارة يمكن تلخيص مشهد الصراع بين المقاومة والكيان الصهيوني. أربعون عاماً من الهزائم التي تعرّض لها العدو وفق معادلة الربح والخسارة الواضحة والملموسة للعيان، ومنها الانسحاب الذليل من جنوب لبنان عام 2000، والفشل في حرب الـ 33 يوماً في تموز ـ آب 2006، وقبلها الوصول إلى تفاهمات رعتها سورية عام 1996 وهو ما عُرف بـ «تفاهم نيسان» الذي مهّد لتحويل الحزب إلى ندٍّ رادعٍ لـ «إسرائيل».
معادلات الردع التي ترسّخت وتعدّدت منذ 1996، عوّمت الحزب كقوةٍ عسكريةٍ قادرةٍ على فرض الخطوط الحمر على الكيان الصهيوني، ولعلّ تعريف السيّد الشهيد حسن نصرالله في أحد آخر خطاباته لمفهوم الانتصار القائم على معادلة «ننتصر عندما لا نخسر» كحركة مقاومة، يحمل في طياته مآزق متعدّدة للكيان الصهيوني، يعترف فيها ضمناً ووسط النخب الحاكمة، وهو ما دفعه أساساً إلى استغلال ما جرى في الأسابيع الثلاثة الماضية لتعويم أمنية «اقتلاع حزب الله»، فالحرب وجودية ولا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال الخروج عن معادلة «ننتصر عندما لا نخسر» في وجه ما بات معروفاً من اختلال موازين القوى لمصلحة الكيان الصهيوني، والمشاركة الأميركية الفعّالة في لحظة التقاء مصالح تشرّع إتمام المخطط الأميركي لشرق أوسط جديد بأيدٍ «إسرائيلية»؟
إعادة ترتيب ورسم المنطقة بالقوة تجربة تحمل كثيراً من السراب، لكن حسابات الكيان كانت تقوم على نجاحه في اغتيالات على مستوى عالٍ من الدقة وبزمنٍ قياسي، عبر الضربات التي وجّهتها «إسرائيل» للبنية القيادية العسكرية لحزب الله، والتي لم تقتصر فقط على اغتيال قادة الوحدات العسكرية والمسؤولين العسكريين البارزين في الحزب، بما ذلك اغتيال الأمين العام للحزب الذي يشغل منصب القائد العام مع ما يمثّل من ثقلٍ سياسيّ ومعنوي وعقائدي، بل تخطّت ذلك للنيل من آلاف المقاتلين والعاملين لوجستياً في الحزب عبر تفجير أجهزة الاتصال التي ذهب ضحيتها دفعةً واحدة بين ثلاثة وأربعة آلاف ناشط في الحزب، وهو ما شبّهته إحدى الصحف الإسرائيلية بـ «سلاح الدمار الشامل الجديد» في الحروب والذي يُعتبر من أفضل الأسلحة الممهّدة لشنّ حربٍ قاصمة ونهائية.
هذه الضربات بقوتها واتّساعها، معطوفةً على القصف الجوي الكثيف الذي استهدف كلّ المناطق التي تشكل البيئة الحاضنة لحزب الله والعمل على تدميرها نهائياً في استعادة لصورة التدمير في قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول الماضي، دفعت وتدفع كلّ مراقبٍ ومتابع للتساؤل عما إذا كان يمكن لحزب الله النهوض من جديد، وخوض مواجهةٍ قادرةٍ على إفشال ما سعت وخطّطت له «إسرائيل» وأرادت تحقيقه عبر هذه الضربات؟
ذروة النجاحات «الإسرائيلية» تجلى في اغتيال السيد حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله، وبالتالي فإنّ مروحة الإنجازات في ما يخصّ الاغتيال كسلاحٍ تستخدمه تل أبيب منذ عام 1948، بحدّ ذاته تراجع زخماً وتأثيراً، فأيّ عملية اغتيال اليوم لم ولن تكون بذات المستوى والتأثير على بنية المقاومة وبيئتها الحاضنة، لذلك بدأ جيش الاحتلال عقب الاغتيال مباشرةً بالعملية البرية التي تستهدف الشريط الحدودي في جنوب لبنان، بالتزامن مع قصفٍ عنيف لتدمير تلك المناطق في محاولةٍ لاحتلال القرى والتلال الحاكمة، ومن ثم البدء بالمرحلة الثانية من العملية البرية، لكن بدأ المشهد العسكري يتغيّر تدريجياً بما يوحي وكأنّ «الإسرائيليين» قد أخطأوا الحسابات.
الغزو البري «الإسرائيلي» لم يحقق التقدّم الذي كانت تراهن عليه «إسرائيل»، ولا يزال القتال يدور على الحافة الأمامية للقرى الحدودية في الجنوب، والدبابات «الإسرائيلية» لم تتمكن من التوغل في محاور الغزو البري. كما أنّ حزب الله كثّف قصفه الصاروخي للعمق «الإسرائيلي»، وبات الشمال من حيفا حتى الحدود اللبنانية ساحة حرب بكل ما في الكلمة من معنى، وثمّة ما يشي باحتمال استعادة حزب الله بعض المعادلات التي كانت قائمةً قبل الضربات القاسية التي نجحت «إسرائيل» بتوجيهها إلى حزب الله، حيث لوحظ انحسار الغارات الكثيفة على الضاحية الجنوبية، بعد إعلان غرفة عمليات المقاومة أنها ستحوّل حيفا إلى كريات شمونة، وبعد ما عاد به الهدهد 3 من تصوير للمواقع «الإسرائيلية» المختلفة في حيفا، وبعد العملية النوعية العسكرية الاستخبارية الدقيقة التي استهدفت قاعدة تدريب للواء غولاني في جنوب حيفا، والذي أوْقع عشرات الجنود «الإسرائيليين»، ووصل العدد إلى 67 بين قتيلٍ وجريحٍ بعضهم بحالةٍ خطرة وفق وسائل الإعلام «الإسرائيلية». هذا الهجوم النوعي الذي جاء ردّاً مطوّراً وحاسماً على الغارة «الإسرائيلية» على منطقتي النويري والبسطة في بيروت، والتي سبقها في ذات السياق شنّ هجومٍ بطائرةٍ مُسيّرة على منزل بمدينة تل أبيب. كما جرى لحظ البيان الذي أصدرته المقاومة قبيل الهجوم على قاعدة لواء غولاني والذي حذّر المستوطنين من التواجد قرب القواعد العسكرية أو في أماكن تجمّع الجيش الإسرائيلي في حيفا وعكا.
إنّ سير المواجهة العسكرية الآن بين حزب الله و»إسرائيل»، يوحي بأنّ الحسابات الإسرائيلية التي راهنت على الانتصار الحاسم عبر قطع رأس حزب الله العسكري، الذي تمثّل بالضربات القاسية التي وجهت له، تجاهلت العوامل الآتية:
*أولاً، بنية حزب الله العسكرية الضاربة، القوة البشرية والأعتدة العسكرية بكلّ أنواعها، ليست في الضاحية الجنوبية، بل منتشرةٌ على خط الجبهة والمواجهة المباشرة من الحدود الجنوبية في لبنان وصولاً إلى أقصى شرق لبنان في سلسلة جبال لبنان الشرقية.
*ثانياً، الهرمية التي تحكم عمل التنظيمات المقاتلة غير النظامية قادرة على تعويض الخسائر التي لحقت بقادة الصف الأول في الجناح العسكري للحزب، لا سيما أنّ الخسائر الرئيسية كانت في صفوف القادة الكبار في بيروت وليس قادة الصفين الثاني والثالث الميدانيون حيث يتوضّع الثقل العسكري العملياتي.
*ثالثاً، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ العلاقة التي تربط إيران بحزب الله وتشعّبها، وعمق التحالف بينهما، حيث استشهد إلى جانب السيد ضابط رفيع في الحرس الثوري، وهذا يعني أنّ غرفة العمليات الخاصة بإدارة معركة بهذا الحجم ليست متروكةً وإمكانية التعويض والدعم والإشراف ليست في وارد التأثر، رغم العديد من الملاحظات التي يمكن مناقشتها حول التباطؤ الإيراني في التحرّك قبيل اغتيال السيّد رهاناً على هدنة كان الأميركيون قد وعدوا طهران بها وفقاً لتصريحات الرئيس الإيراني حرفياً.
*رابعاً، الصدمة والرعب في الحالة اللبنانية كانت مختلفةً بشكلٍ كليّ عن الوضع في غزة، فالقصف المروّع على القطاع وعلى الضاحية والقرى الحدودية هو المشترك، لكن الاغتيالات المركزة في غضون 10 أيام لقادة كبار في المقاومة وعلى رأسهم السيّد نصرالله بما يمثّله، وحجم الخرق الأمني القائم حتى اللحظة وهو خرقٌ مركّب، والرهان «الإسرائيلي» المباشر على انقلابٍ سياسيّ في لبنان نظراً للانقسام القائم، جعل الكيان يظنّ أنّ الحرب على لبنان لن تكون حرباً طويلة الأمد، وهي لم تستمرّ كما استمرت الحرب في غزة، وصورة النصر على الشريط الحدودي، ستدفع المستوطنين في الشمال إلى العودة، وبالتالي الحصول على صورة نصرٍ متكامل وتحديد الخطوات اللاحقة في ما بعد، أمرٌ متاح وفي غضون أيام لا تتعدّى في حدّها الأقصى حرب تموز 2006 التي استمرت 33 يوماً.
*خامساً، التنسيق والردّ المتناسق، والعودة إلى الحرب النفسية الإعلامية، وتحرّك الجناح العسكري بعيد أيّ خطابٍ لمسؤولٍ في الجناح السياسي التنفيذي، والتركيز على بيانات «غرفة عمليات المقاومة»، وهي بالمعنى العسكري غرفةٌ تشرف على نشاط كافة صنوف الأسلحة وكافة الوحدات المقاتلة، وتقوم بالتخطيط والتنسيق.
*سادساً، تصاعد عمليات إطلاق الصواريخ والمُسيّرات من قبل الحزب، وتوسيع مدياتها بشكلٍ متدرّجٍ، ما يعكس عدم نجاح عمليات القصف العنيف المتواصل والذي يقوم به الكيان منذ عام على مواقع حزب الله العسكرية في لبنان، في إلحاق أذىً ملموس في بنية بهذا السلاح الاستراتيجي لدى المقاومة.
كلّ ما سبق أدى إلى طرح فرضية وجود خطأ في التقدير الاستراتيجي العام للموقف من قبل «إسرائيل» احتمالاً بدأ يفرض نفسه بقوة، فالاغتيالات والعمليات الأمنية على رغم قوّتها، لا يبدو أنها قادرة على فرط بنية حزب الله العسكرية والتنظيمية وحتى السياسية التنفيذية. بل على العكس يبدو أنّ نمطاً جديداً من معادلات الردع العسكري بدأ يطلّ برأس، وهو محاولة لاستعادة جزء من معادلات الردع السابقة بانتظار الميدان، وبانتظار الردّ «الإسرائيلي» على ضربة 1 تشرين الأول التي أعادت إيران إلى المعركة…
*كاتب سوري