هل أفقدت جبهة الإسناد لبنان حق الدفاع؟
ناصر قنديل
– في كلام لرئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل عن الحرب معطوفاً على انتقاده الأصلي لفكرة جبهة الإسناد لغزة، أكد خلاله رفض البحث بمستقبل سلاح المقاومة في ظل الحرب، ودعوته لأولوية وقف إطلاق النار وتطبيق القرار 1701. قال إن فتح جبهة الإسناد لغزة قد تسبّب بفقدان لبنان مشروعية حق الدفاع، والمقصود طبعاً ليس مشروعية قيام الجيش الذي منعه الأميركيون والغرب من امتلاك أي سلاح قادر على ممارسة هذا الدفاع، بل مشروعية ترجمة المقاومة معادلات الردع التي وعدت بها تحديداً إذا استُهدفت الضاحية الجنوبية بالردّ باستهداف تل أبيب.
– هذا الكلام يتضمّن تأكيداً على لا مشروعية البحث بقبول البحث في مستقبل سلاح المقاومة قبل أن يمتلك الجيش قدرات تتناسب مع حاجات الدفاع بوجه كيان متوحّش مجرم، أظهرت حروبه التي نحن في قلبها، حقائق لا يتجاهلها إلا ساذج أو أحمق أو مشبوه، ونظنّ أن كلام باسيل موجّه لهؤلاء. والحقيقة الأولى هي أن لدى الكيان مشروع توسعيّ استئصالي في التعامل مع شعوب المنطقة وجغرافيتها، لا تحتاج إلى ذرائع، ولا يعطلها التمسكن والتشدق بدعوات السلام ونيات النعامة، والخرائط معلنة على زنود الجنود والنيات واضحة في خطابات وزير الحرب وكلام رئيس حكومة الكيان. والثانية أن المجتمع الدوليّ الذي يمنع العدوان ويحمي الضعفاء كذبة كبيرة، كما قال مفوّض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، إننا جميعاً نتوسل نتنياهو لوقف الحرب وهو يمضي فيها قدماً. والثالثة أن كل الأثمان التي دفعها العرب للكيان من بوابة التطبيع لم تمنحهم أي وزن في القدرة على لجم توحشه وإجرامه بل زاده الموقف العربي توحشاً وإجراماً واستخفافاً بما يمثله العرب.
– الأكيد أن هذه الحروب التي تحتمل توجيه الانتقادات لقوى المقاومة في تفاصيل الأداء، يجب أن تكون قد حسمت في كل عقل سويّ، وعند كل إنسان طبيعيّ، وسياسي وطني ومسؤول، حقيقة واحدة، هي أن السبيل الوحيد لردع هذا الكيان المتوحش والمجرم والمدعوم بلا حدود من القوة التي تقود الغرب وتمارس السطوة على النظام العالمي، هو امتلاك قوة عسكرية يقيم لها الكيان حساباً، وإن لم يقم هذا الحساب تستطيع أن تجعله يدفع الأثمان الباهظة بمثل ما يفرض عليها أن تدفع، وأنّه في زمن الدعم الأميركيّ اللامحدود للكيان، والتحريم الأميركيّ المفروض على لبنان وجيشه من امتلاك أيّ قدرة عسكريّة حقيقيّة تردع كيان الاحتلال، فإن لبنان لا يملك إلا هذه المقاومة التي يجب قبل انتقادها، والانتقاد مشروع، التأكيد بأنها انتقلت مع هذه الحرب من كونها أداة تحرير وحماية إلى حاجة وجودية لا بقاء للبنان بدونها. ومن كان لديه بديل عليه أن يتجرّأ على مصارحة اللبنانيين بعناوينه، بعيداً عن ترهات القرارات الدولية قوة معنوية لا يجرؤ الكيان على انتهاكها وقد مزّق مندوبه ميثاق الأمم المتحدة على منبرها ومنصتها، أو الحديث عن قوة اعتبارية للجيش يحترمها الاحتلال، ودماء جنود الجيش في الجنوب لم تبرد بعد؟
– هنا ندخل إلى مناقشة فكرة مشروعية الدفاع، وتأثره بجبهة الإسناد، والصحيح هو أن جبهة الإسناد كانت أهم عمل دفاعي عن لبنان، دون أن يعني ذلك أن معادلات الردع لم تتأثر وهي غير مشروعية الدفاع. والقيمة الدفاعية لجبهة الإسناد سوف تظهر لدى أي باحث جدّي عن معرفة الحقيقة على ثلاثة مستويات: الأول هو أن نيات الاحتلال تجاه لبنان ظهرت الآن ساطعة. ومن السذاجة الاعتقاد أن كلام الاحتلال عن عدم القبول بالقرار 1701 ونيّة الحصول على امتيازات أمنية في اتفاقية تشبه اتفاق 17 أيار مع لبنان هي مجرد تداعيات لجبهة الإسناد أو تأتي انفعالاً وغضباً وعقاباً على جبهة الإسناد، لأن هذه هي الخلاصة الاستراتيجية لمفهوم الأمن القومي الوقائي في الكيان بعد طوفان الأقصى، حيث التهديد وجوديّ واستراتيجيّ بمجرد وجود قوى المقاومة، وحيث عدم وجودها إغراء بالتوسّع والاستيطان، ولذلك كل ما كان يرغبه الاحتلال من تجميد جبهة الإسناد كان تكتيكياً وظرفياً حتى يحسم حربه بالنصر في غزة ويستدير نحو لبنان، ويُشهر عندها أهدافه الحقيقيّة التي باتت اليوم معلنة. أما المستوى الثاني الدفاعي لجبهة الإسناد فهو في أنها كما تجنّدت لمساندة غزة فتحت الطريق عندما تصبح الحرب على لبنان هي العنوان أن يستفيد لبنان من اضطرار الاحتلال للقتال على عدة جبهات أخرى تستنزف بعض قدراته وتخلق مناخ حرب إقليميّة. ويبقى المستوى الثالث هو الأهم وهو ميدانيّ، سواء لجهة اليقظة والاستنفار واستنزاف قدرات الاحتلال الأماميّة وتمهيد الجبهة، وتدريب البنية القتاليّة ميدانياً والتأقلم مع مناخات الحرب، وكل ذلك بفعل جبهة الإسناد لكن الأهم يبقى في إفقاد عنصر المفاجأة للاحتلال، الذي يكفي أن نتخيّل وهو يملك هذه القدرة على الضربات القاتلة التي سدّدها للمقاومة لو أنه فعل ذلك فجأة وفي غير مناخ حرب قائمة.
– بالمقابل كانت لجبهة الإسناد كلفة، منها تعديل شروط القدرة على تفعيل معادلات الردع، وهذا صحيح، لكنه مختلف عن إسقاط مشروعيّة الدفاع جذرياً، فالذي جرى هو أن المقاومة إدراكاً منها لعدم مشاركة فئات لبنانية لها بخيار جبهة الإسناد امتنعت عن استهداف تل أبيب مقابل الضاحية كي لا يكون الردّ على بيروت، وحصرت المعادلة بتل أبيب مقابل بيروت، إذا ذهب الكيان الى الاستهداف المفتوح للعاصمة، وتحمّلت ببنيتها وبيئتها تبعات جبهة الإسناد خصوصاً في مرحلة انتقالية قاسية أعقبت استهداف قائدها الأسمى والأعلى والأغلى، إلى حين استعادتها توازنها واسترداد زمام المبادرة في الحرب نارياً وبرياً. وهذه المرحلة الانتقالية تحمّلت كلفتها بنية الحزب وبيئته تفادياً لتحميلها سائر اللبنانيين، وليس ضعفاً ولا نقصاً في المشروعيّة، وهذا يجب أن يُسجّل لها لا عليها.