أولى

التوحش والتدمير لا يصنعان الانتصار

د. حسن أحمد حسن*

لا أحد يقلل من قدرة الكيان «الإسرائيلي» على القتل والتدمير ونشر الموت وتعميمه استناداً إلى اطمئنانه التام لاستمرارية تزويده بأكثر مما يطلب من أحدث ما ينتجه المجمع الصناعي العسكري الأميركي والأطلسي من أدوات قتل وفتك وإبادة. ولا شك في أنّ نتنياهو وحكومته العنصرية المتطرّفة قد نجحوا في إثبات أنهم الأكثر وحشيّة وإجراماً في تاريخ البشرية، وأنّ نزعة القتل وسفك الدماء جزء من كينونة هذا الكيان المارق على الشرعية الدولية بغطاء أميركيّ طالما أنه ينفذ الاستراتيجية العدوانية الهادفة إلى استمرارية بسط النفوذ والسيطرة على العالم كله، وإبقاء الأحادية القطبية المهيمنة قدراً مفروضاً على الكون بغضّ النظر، عما قد يخلفه ذلك من ويلات وكوارث وأخطار وتهديدات تواجه جميع دول العالم وشعوبه. وفي ضوء هذا يمكن فهم ما جرى ويجري منذ الصفعة المؤلمة التي تلقتها تل أبيب في السابع من تشرين الأول 2023، فسرعان ما حضرت أميركا بكلّ ثقلها لنجدة طفلها المدلل، وتأخير إعلان انتهاء عمره وصلاحيته، على الرغم من الإخفاق الذريع في أداء دوره الوظيفي المكرّس لحماية مصالح الغرب المتوحش في المنطقة. ومن يظنّ أنه يستطيع تلافي تداعيات الإجرام الصهيو ــ أميركي المنفلت من كلّ عقال بالخضوع التامّ لأولئك القتلة وتنفيذ كلّ ما يطلبونه، فعليه إعادة قراءة تطور الأحداث وتداعياتها بعيداً عن القناعات المسبقة التي فرضها الاستكبار العالمي على المجتمع الدولي منذ ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. وعندما بدأت القبضة الأميركية تتراخى عن الإطباق على القرار الدولي بفعل محور مقاوم رفض الخضوع والإذعان كانت الفورة الجديدة من الجنون الأميركي بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 والضرب عرض الحائط بكل ما له علاقة بقيم المجتمع الدولي وأعرافه وقيمه وقوانينه، ومرة جديدة تأكد للدولة العميقة أنّ محور المقاومة قد يحرق الطبخة بما فيها لأنه لا يخاف من العصا الأميركية، ولا تثير شهيّته الرغبة بنيل رضا بلاد العم سام، وفي الوقت نفسه مستعدّ لدفع التكلفة مهما ارتفعت، فتمّ إخراج الورقة التالية من الأدراج، واشتعلت المنطقة بما أسموه زوراً وبهتاناً «الربيع العربي» وعملوا على امتداد ألسنة اللهب إلى الداخل الإيراني، لكن مخططهم لم ينجح هناك، وتبيّن أنّ غالبية الشعب الإيراني تتبنّى خيارات قيادتها والقرارات التي تعتمدها تجاه ما تشهده المنطقة من أحداث وتداعيات. ومع مرور السنوات وتعثر المشروع التفتيتي في جرف سورية إلى المجهول تمّ الانتقال إلى مرحلة جديدة أكثر خطورة وتهديداً للجميع، لأنّ صمود الدولة السورية وبقاءها قرع جرس الإنذار الذي نبَّه مفاصل صنع القرار الأميركي إلى خطورة ارتجاج دعائم المشروع الصهيو ـــ أميركي، وضرورة رفع السقوف والانخراط المباشر بإشعال حرب تتوسّع تدريجياً، وتوكيل تل أبيب بتنفيذها بعد تأمين كلّ ما يساعدها على استعادة هيبة الردع المتداعي بعد انطلاقة ملحمة طوفان الأقصى. وهذا يفسّر إطلاق العنان للإجرام «الإسرائيلي» ليعيث قتلاً وتدميراً وترويعاً وإبادة جماعية وتهجيراً قسرياً بذريعة حق الدفاع عن النفس، وهم المعتدون والقتلة ومرتكبو المجازر منذ ما قبل إنشاء كيانهم اللقيط وحتى تاريخه، والرؤية الموضوعيّة البعيدة عن العواطف والرغبات الأمنيات تشير إلى أنّ هذا التوحش والإجرام الصهيونيّ سيزداد لأنّ الحرب الدائرة حرب أميركيّة بامتياز، والكيان إحدى الأدوات التنفيذيّة المعتمدة، لا بل هو الأداة الأكثر لتعميم الرعب في ظلّ عجز المجتمع الدولي عن الارتقاء إلى مستوى المسؤولية الأخلاقية والإنسانية المطلوبة، وخوف الغالبيّة من العصا الأميركية الغليظة المرفوعة فوق رؤوس الجميع. وهنا تظهر صوابيّة القرار المتخذ من المحور المقاوم بغضّ النظر عن حجم الخسائر والتكاليف المترتبة وبشكل متصاعد يوماً بعد آخر، ومن المفيدة الإشارة هنا إلى بعض الأفكار والعناوين لفكفكة خيوط اللوحة المتشابكة، ومنها:
*مستوى الإجرام «الإسرائيلي» المرتكب بمشاركة أميركية يؤكد أنّ التذرّع بحق الدفاع عن النفس أكذوبة كبرى، ولو لم تكن المقاومة الفلسطينية بادرت لإطلاق طوفان الأقصى لكانت اليوم تتعرّض لواقع أسوأ، ولكانت آلة القتل والإبادة قوّضت كلّ أمل باستعادة أيّ حق من الحقوق المستلبة والمغتصبة بما في ذلك الحق في الحياة، وما تباهي نتنياهو بتصميمه على إعادة خلق الشرق الأوسط الموسّع وفرضه على دول المنطقة إلا الدليل على ذلك، مع التذكير بأنه الشرق الأوسط نفسه الذي بشّرت به كونداليزا رايس في حرب تموز وآب 2006م.
*بالتوازي مع الفقرة السابقة لو لم تبادر المقاومة الإسلامية اللبنانية إلى فتح جبهة الإسناد في الثامن من تشرين الأول من العام الماضي لكانت نزعة القتل والإبادة والتهجير القسري أتمّت ما تريده، وقضت على الوجود الفلسطيني بكلّ مظاهره في الضفة والقطاع، وعندها يكون التفرّغ للقضاء على المقاومة اللبنانية وتغيير هوية لبنان بكلّ مكوّناته أقلّ تكلفة على من يتطلّب دوره الوظيفيّ تغيير معالم المنطقة، وتجهيز البيئة المطلوبة للتعامل مع الشعوب والدول على أنّ الجميع عبيد وخدم في أفضل الأحوال، ومن لا يرضى بذلك مصيره القتل والإفناء.
*من المهم توضيح أنّ الأعمال القتالية البطولية التي يخوضها رجال المقاومة في الجنوب اللبناني تفوق كلّ التوقعات، فأساليب القتال والتكتيكات التي تحكم الأداء الميداني للجيوش النظاميّة تختلف كلياً عن تلك الخاصة بالمقاومة، فليست مهمة المقاومة الانتشار في تراتيب قتال محددة لكلّ من حالتي الدفاع والهجوم، ولا التعامل بسير المعارك التقليديّة التي عرفتها الحروب السابقة بين الجيوش، بل كلّ ما هو مطلوب من المقاومة رفع التكلفة على العدو في أيّ عدوان يقوم به. وهذا ما يُنجزه المقاومون بكفاءة عالية، وما الخسائر التي تُمنى بها الفرق العسكرية «الإسرائيلية» الخمس التي كلفت بمهمة التوغل في الجنوب اللبنانيّ وعجزها حتى الآن عن تنفيذ المهمة إلا الشاهد الأبرز على صحة ما نقول.
*قد ينجح العدو في إحداث اختراق ما على هذا المحور أو غيره، وقد تتمكّن بعض القوات من التقدّم لمسافات مختلفة. وهذا لا يشير إلى ضعف في أداء المقاومة المتجذرة هناك، بل قد يكون ذلك ضمن التكتيكات المخطّطة مسبقاً لجر القوات المعادية إلى ما يسمى جيوب قتل لزيادة التكلفة والخسائر البشرية والتسليحية إلى أن تصل إلى مرحلة تفوق طاقة القوات المهاجمة على التحمل، وهذا ما تنجزه المقاومة على مدار الساعة.
*رفع سقف الإجرام وارتكاب المجازر ضد البنى التحتية في الداخل اللبناني يعكس مدى الحنق والغضب جراء العجز عن تحقيق إنجازات ميدانيّة، فيتم التعويض بزيادة التوحش ضد الأهداف المدنية ومحاولة تعطيل دورة الحياة واستنساخ الجرائم المرتكبة في غزة لتحقيق هدفين بآن معاً:
ـــ خلق شرخ بين المقاومة وبيئتها الحاضنة والانتقام من هذه البيئة على ما تشكله من عمق استراتيجيّ للمجموعات القتالية المنتشرة على امتداد خط الجبهة المشتعلة من رأس الناقورة إلى أطراف جبل الشيخ.
ــــ الضغط المتزايد على بقية المجتمع اللبناني بكل مكوّناته، وخلق انقسامات داخلية تبعد هذا المجتمع عن البيئة الحاضنة للمقاومة، والعمل بكل السبل لإشعال الفتن والاقتتال الداخلي، وهذا أخطر ما يمكن أن تواجهه الدولة اللبنانية بكل مكوناتها، ومن المهم قطع الطريق على هذا الأمر بشتى السبل والوسائل، وما المكابرة التي يحاول نتنياهو وبقية أركان حكومته العنصرية المتطرفة التظاهر بها إلا الخطوة التي تسبق الاعتراف بالفشل عن تحقيق الأهداف، وهذا يذكّرنا بحرب تموز وآب 2006م. والسقوف العالية التي رفعتها تل أبيب إلى درجة أن مصطلح «عقيدة الضاحية» أصبح في صلب الاستراتيجية العسكرية «الإسرائيلية»، وهو يعني استخدام القوة المفرطة والتدمير الشامل لكل مظاهر الحياة، والتساؤل المشروع هنا: هل نجح الكيان باعتماد مبدأ عقيدة الضاحية» عام 2006 في تحقيق أي انتصار، أم أنه يسعى اليوم لتجاوز الواقع الذي فرضته خواتيم تلك الحرب؟
*هذه هي طبيعة الحروب التي لا يمكن أن تسفر إلا عن المزيد من الوجع والخسائر والضحايا والقتل والتدمير، لكن عندما تفرض يصبح التردّد في خوضها أولى علامات الإخفاق، ويتحوّل الخوف من تداعياتها والقلق والاضطراب إلى خطوات تمهيدية يحتاجها العدو لتحقيق أهدافه، ومن يظنّ أن الواقع «الإسرائيلي» أفضل حالاً أو أقلّ وجعاً، فعليه المرور ولو سريعاً على ما يتمّ تداوله في الإعلام «الإسرائيلي»، وأكتفي هنا بالإشارة إلى مقالتين إحداهما نشرتها صحيفة معاريف بتاريخ 19/10/2024 للكاتب المعروف «رون كوفمان» قال في مقدمته: (… ما نعرفه هو أنّ «إسرائيل» وبشكل قاطع ومطلق هي مجرد وكيل لأميركا، نحن بحاجة إلى موافقة الأب على كلّ عمل ونشاط، الإدارة الأميركية تدير الحرب بالنيابة عنا… أميركا تسلحنا وبدون الأسلحة الأميركية لا نستطيع أن نشنّ حرباً وجودية على أرضنا…) ويتابع لاحقاً بالقول: (… لمن يسأل ماذا سيحدث لنا في النهاية في ظل وضعنا السياسي فهو لم يفهم البداية، لأنّ من فهم البداية لا يسأل عما سيحدث في النهاية حتى «النصر المطلق» و»الكذب المجرد»). والمقالة الثانية بعنوان «كيف سيكون شكل الانهيار» وقد نشرها موقع «زمن إسرائيل» بتاريخ: 16/10/2024 للدكتور عمير سيكل يقول فيه: (… أصبح من الواضح أنه إذا استمرت «إسرائيل» في الاتجاه الذي تسير فيه فإننا سننهار، وفي الوقت الحالي يبدو أن هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحاً، وهذا التحليل يعتمد على بعض الافتراضات…)، ويعدد تلك الافتراضات ليصل لخاتمة يقول فيها: (… كل هذا سيزيد من الأزمة الخطيرة، وستزداد حالات مغادرة البلاد، وستنقل الشركات العالمية مقارها من «إسرائيل» وهذا ما سيبدو عليه الانهيار، والمخطوفون لن يعودوا).
من كل ما تقدم يتضح أنّ ارتفاع الأصوات التي تحمّل المقاومة المسؤولية عما يرتكبه الكيان الصهيوني من جرائم ومجازر إنما يساهم من يصطفّ من حيث يدري أو لا يدري مع الكيان الغاصب في هذه الحرب التي تستهدف الوجود حاضراً ومستقبلاً. وعندما يصنّف نتنياهو الحرب بأنها وجودية، فهذا يعني بقاء الكيان إذا انتصر، وزواله إذا خسر. ومن المهم هنا نفض الغبار عن الجزء المخبوء مما يعنيه نتنياهو عبر التساؤل المشروع: إذا فازت «إسرائيل» بحربها الوجوديّة هذه، فما هو المستقبل الذي ينتظر من خسر الحرب أولاً، وماذا عن بقيّة دول المنطقة ثانياً؟ وهل سيسمح قتلة الأنبياء إذا ظفروا بأن يهمس أحد ببنت شفة إلا بإذن مسبق، مع الأخذ بالحسبان أن العقيدة التي تحكم حكام تل أبيب تنظر إلى جميع الخلائق الأخرى على أنّهم ضمن الأغيار «جوييم» يحقّ لأصحاب الدماء الزرقاء أن يتعاملوا معهم كالحيوانات، وهذا ما لا يمكن أن يقبله من به بقية من كرامة أو إنسانية.

*باحث سوريّ متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى