نقاط على الحروف

حرب نظامية لبنانية «إسرائيلية»؟

ناصر قنديل

 

يحتاج المرء إلى الابتعاد عن صخب السجالات الإعلامية العقيمة الدائرة على شاشات قنوات التلفزة وصفحات وسائل التواصل الاجتماعي، كي يتمتع بحد مقبول من النقاء الذهني بعيداً عن التشويش العقلي والانحراف التفكيري، كي يتسنى له التأمل الهادئ وبعقل بارد لحقيقة ما يجري على جبهة جنوب لبنان منذ أيام، بعد مسار تصاعديّ استعادت خلاله المقاومة حيويّتها وتحكمها باستخدام قدراتها الناريّة وبلورة خططها في مواجهة الحرب البرية وآليات تطبيقها في الميدان.
نحن أمام مشهد استراتيجي جديد في المنطقة، لا تشبهه حروب الاستنزاف التي خاضتها الجيوش العربية الوطنية مع جيش الاحتلال في الجبهتين المصرية (1968 – 1970) والسورية (1973 – 1974)، حيث لم تكن الهجمات البرية الضارية والمواجهات التي تشارك فيها كل القوة البرية لجيش الكيان، ولا تشبه ما يجري أيضاً المعارك البطولية التي خاضها المقاومون اللبنانيون من شباب حزب الله في حرب تموز 2006، حيث كان القائم حرب عصابات على خلفيات ومقدّمة وميمنة وميسرة جيش الاحتلال المتقدم في عدة محاور وتكبيده خسائر تمنعه من الاستقرار والثبات، وفق المفهوم التاريخي لحروب المقاومة، ولا تشبه ما يجري في غزة من بطولات يوميّة تلحق بجيش الاحتلال الذي توغل في كل قطاع غزة، الخسائر البشرية والمادية التي تقول له إن إحكام السيطرة والاحتفال بالنصر أمر مستحيل، وإن تحمّل تبعات الاستمرار في حرب الاستنزاف مستحيل أيضاً.
خلال أسبوع نحن أمام مشهد من مشاهد الحرب العالمية الثانية، حيث يتقابل جيشان نظاميّان عبر خط قتال برّي، يمتلئ بالخنادق والتعرجات والجبال والهضاب، يحتشد على طرفيه آلاف المقاتلين والجنود، ومن خلفهم عشرات الآلاف الذين ينتظرون، وتستهلك فيه كل يوم آلاف طلقات المدفعية وعشرات آلاف طلقات الرصاص ومئات القذائف المضادة للدروع، ويشهد مئات غارات الطيران يشنّها جيش الاحتلال على الخط الخلفي للجبهة بعمق بضعة كيلومترات، وتقابله مئات الصواريخ الصغيرة والمتوسطة تطلقها المقاومة على العمق اللصيق بالجبهة بكيلومترات قليلة، بمعزل عن الاستهدافات التي يقوم بها المقاومون والاحتلال للأعماق المتقابلة.
خلال أسبوع حرب كاملة المواصفات، يلتحم فيها الجنود والمقاتلون من مسافة صفر، وتملأ رائحة البارود في كل ناحية وصوب، وغبار المباني المدمّرة ودخان الحرائق في كل اتجاه وكل مكان، على طول جبهة تقارب خمسين كيلومتراً، حيث على مدار الساعة يكرّر جيش الاحتلال محاولاته للتقدم وتحقيق الاختراق، وينتقل من تكتيك إلى آخر في لحظات، أملاً بإحداث الفرق، مرة بمحاولات تسلل على نطاق فصيل نخبة من وحدة ايغوز، ومرة بتقدم عرضي على نطاق سرية، ومرة بكتيبة مشاة معززة بالمدرعات، والهجمات تتصل ليلاً ونهاراً، طيلة أيام هذا الأسبوع الممتدّ منذ محاولة الاختراق على مثلث راميا – عيتا الشعب – القوزح، حيث الخطوط الخلفية القريبة تشهد من جانب الاحتلال كل ساعة ترتيبات جديدة، لدمج قوى وإعادة تشكيل أخرى، ودفع وحدات جديدة الى الجبهة الأمامية، لكنها سرعان ما تتحوّل الى مقابر جماعية للضباط والجنود، كما حدث في مستعمرة شوميرا أمس، عندما أصابت صواريخ المقاومة تلك التجمّعات والحشود.
لم يعد ضرورياً التذكير بأن المقاومة تقاتل بعدما تلقّت ضربات كان يفترض بها أن تكون قاتلة، وأنها نهضت بوقت قياسيّ، وأنها تقدّم معجزة قتالية عسكرية في الأداء الخارق الذي تقدّمه على هذه الجبهة، ذلك أن هذا التذكير تحتاجه المقاومة عندما يكون أداؤها يحتاج إلى الأخذ بالاعتبار في تقييمه ما لحق بها، لكن الذي يجري أكبر بكثير، وأعظم بكثير، بحيث يصبح هذا التذكير بلا قيمة، فمن خسرتهم المقاومة وفي طليعتهم قائد المقاومة وسيّدها، ومعاونه الأقرب وحامل رايته ومساعدوه الأعلى خبرة، يقاتلون اليوم على الجبهة بمنحهم الروح التي تقاتل، كما قال مؤسس البنية العسكرية للمقاومة القائد الشهيد الحاج عماد مغنية، والخطط التفصيليّة التي وضعوها والبدائل الاحتياطية التي قاموا بترتيبها لكل احتمال ولكل فرضيّة عسكرية وبنيوية، لكن بمعزل عن هذا الاستطراد يبقى الأهم هو أن ما يجري على الجبهة، هو أكبر وأعظم، فهذه أول حرب نظاميّة ممتدة على أيام أسبوع كامل من قتال المشاة والمدرعات حشد خلالها جيش الاحتلال كل قواته على جبهة واحدة هي جبهة لبنان أصغر وأضعف جبهاته العربية تقليدياً، بينما كان القتال المشابه في حرب تشرين 1973 قد امتد خمسة أيام هي أيام التفوق المصري السوري، التي تلاها الهجوم الإسرائيلي المعاكس وإقامة التوازن وصولاً لوقف النار الأول في 24 تشرين الأول أي بعد 18 يوماً من بدء الحرب، بينما يقاتل الجيش الإسرائيلي هنا على جبهة واحدة مع حرب استنزاف على جبهة ضيّقة هي مساحة غزة، ويعجز عن تكرار ما فعله في الهجوم المعاكس في حرب تشرين عندما كان في مواجهته أهم جيشين عربيين، بقدرات نوعيّة في سلاح الجو وسلاح المدرعات والعديد البشريّ.
مع التأكيد على الأهمية التاريخية لما فعله الجيشان السوري والمصري في حرب تشرين 1973، تبقى المعجزة في ما يجري على جبهة جنوب لبنان هي الموضوع، وقد تخطت المقاومة مرحلة منع جيش الاحتلال من تحقيق أهدافه العسكرية، وليس السياسية فقط، فهو لا يفشل فقط في فرض أهدافه المرسومة بالتفاوض على سقوف سياسية وأمنية جديدة، بل يفشل عسكرياً في تحقيق أي اختراق فعلي يمهّد له طريق التوسّع والتقدم، لكن الأمر أكبر وأعظم، لأن ما يحدث الآن هو أن جيش الاحتلال، أقوى وأكبر جيوش المنطقة يجري تدمير بنيته البريّة على حدود لبنان، بعدما اقترب لواء جولاني أهم ألوية النخبة في هذا الجيش من لحظة الخروج من الجبهة، وقد خسر فعالية وحدة ايغوز، أهم وحدات النخبة فيه، وأصيب في قاعدته في الجولان وقاعدة بنيامينا بخسائر لا تُعوّض، وخسر في هذه المعارك الممتدّة لسبعة أيام مئات الضباط والجنود قتلى وجرحى، ومعهم عشرات الآليّات المدرّعة الملحقة به.
حديث وزير الحرب عن إنهاء العملية البرية، ومن بعده رئيس الأركان عن إمكانية إنهاء الحرب، هو إعلان هزيمة لجيش الاحتلال مهما جرت محاولات تجميليّة لمنحه ألقاباً مزوّرة، لأن العملية البرية ليست ديكوراً جرت إضافته الى الخطة العسكرية لجيش الاحتلال يمكن القول إنها إضافة بلا معنى، بعدما كانت العمود الفقري لهذه الخطة، واذا كان ممكناً إعلان النصر بالاستناد إلى ما أنجز قبلها من اغتيالات، كما يقول رئيس أركان جيش الاحتلال، فلماذا لم يعلن النصر في حينها ولماذا كانت العملية البرية؟ وإذا كانت الملاحقة النارية للمقاومة كفيلة بإبعادها إلى ما وراء الليطاني وإعادة مستوطني الشمال بعد إيقاف العملية البرية؟ فلماذا لم يُفلح ذلك قبل العملية البرية وجعلها حاجة ضروريّة؟ ولماذا كانت العملية البرية بالأساس؟
هذه حرب نظاميّة من نوع خاص تخوضها المقاومة على خط جغرافيّ ثابت هو حدود لبنان الجنوبيّة، حيث يتمّ تدمير الخطة الإسرائيلية الاستراتيجية لفرض مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي على المنطقة، ومعها يتمّ تدمير جيش الاحتلال، ولذلك يهرع المسؤولون الأميركيون إلى المنطقة أملاً بإيجاد ما يحفظ ماء وجه الكيان والهيمنة الأميركية دون تنازلات جوهرية واستراتيجية، وينقذ جيش الجيوش الأميركية والغربية في المنطقة الذي يمثله جيش الاحتلال من مقتلة تبدو في بداياتها، لكنها ذات معانٍ وأبعاد استراتيجية سوف تغيّر وجه المنطقة إذا استمرّت المعارك أسابيع مشابهة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى