عندما يصيب الكساد بضاعة واشنطن
ناصر قنديل
– كانت الدبلوماسية الأميركية تقوم طيلة سنوات وثم خلال حرب الطوفان، على معادلة واحدة هي التبشير بحفلة جنون «إسرائيلية» تحرق الأخضر واليابس وتقتل البشر والحجر، وتسأل إذا كان ممكناً التعاون لتهدئة هذا الجنون عبر تقديم مقاربة سياسية يمكن قبولها في تل أبيب بديلاً عن خوض حرب التدمير، سواء ضد غزة أو لبنان أو إيران، وأن واشنطن تفعل ما في وسعها للجم الجموح الإسرائيلي، لكن ظروفها معلومة، فالوضع الأميركي الداخلي وفي فترة انتخابات خصوصاً لا يساعد الإدارة على ممارسة الضغط على تل أبيب، لكن واشنطن تستطيع صياغة مبادرة وساطة لحل سياسي يهدئ روع تل أبيب ويطمئن مخاوفها ويكون بديلاً من الحرب المجنونة، «التي لا يريدها أحد»، خاصة أنها قد تتحول حرباً إقليمية لا تريد واشنطن أن تتورط بها. ولدى الاستفهام عن المقصود بالحرب الإقليمية والتورط الأميركي يأتي الجواب، أن القصد حرب شاملة تكون إيران و»إسرائيل» فيها وجهاً لوجه ولا يكون بمستطاع واشنطن عدم دخول الحرب إلى جانب «إسرائيل»، وأن الطريق لتفادي ذلك هو عدم الرد على الضربات الإسرائيلية لأن تل أبيب سوف تردّ على الردّ، ونذهب للحرب الإقليمية. والنصيحة هي لا تعطوا تل أبيب حرباً تريدها، أي اعطوها ثمن تفادي الحرب وهو تحقيق أهدافها دون خوضها.
– تجنّد لتسويق هذه الدبلوماسية مئات وآلاف الدبلوماسيين والسياسيين والإعلاميين والكتاب العرب خلال سنوات وشهور، لخلق رأي عام عربي انهزاميّ مستسلم، يخضع للإملاءات الإسرائيلية بداعي تفادي الحرب المجنونة، وواشنطن تهدّد مرة بـ»إسرائيل» وإذا لم ينفع تهدّد مباشرة، لأنها ستكون مضطرة للقتال مع «إسرائيل»، لكن هذه الدبلوماسية والاستراتيجية لم تنجح باختراق عقل المقاومة ومحورها. وللمرة الأولى تجد واشنطن من يقول مستعدون لمواجهة التهديدات ودفع الأثمان ولتكن الكلمة للميدان، ودارت خلال سنة حرب طاحنة استخدمت خلالها «إسرائيل» فائض القوة العسكري والأمني والدبلوماسي والإعلامي الأميركي، فخاضت تل أبيب حرب القتل والاغتيالات والتفجيرات والتدمير بدعم وشراكة مباشرة من واشنطن، وبلغ الجنون الإسرائيلي الذي هوّل به الأميركيون مداه، وذهب الإسرائيلي في الحرب على إيران ومن خلفه واشنطن الى حافة الهاوية، أي إلى حافة ما سوف ينتج الجنون الإيراني الذي يقلب الطاولة في المنطقة، لكن نتيجة كل ذلك كانت أن تل أبيب فشلت في تحقيق إنجازات ميدانية وعسكرية تتيح لها استعادة ردعها الذي فقد في 7 أكتوبر، أو السيطرة على غزة وإنهاء المقاومة فيها، أو استرداد الأسرى دون تفاوض، والأهم الفشل البري الذريع والمريع على حدود لبنان رغم كل ضربات الجنون الأميركي الإسرائيلي التي لحقت بحزب الله.
– الآن ندخل مرحلة جديدة، ونشعر من الخطاب الأميركي أن البضاعة الكاسدة لم تعُد صالحة للتداول، فبماذا سوف تهدّد واشنطن، بتدمير المدن المدمّرة، أم بقتل الشعب المقتول، أم بتقطيع أوصال الأطفال المقطّعة، أم بتهجير النازحين مرة ومرتين، أم تهدّد بالانضمام إلى حرب ضد إيران كلفتها على أميركا بحجم انهيار الاقتصاد العالمي من بوابة أسواق الطاقة وتأثيرها على البورصات، وانهيار منظومة القواعد الأميركية في المنطقة، واحتمال دخول إيران زمن السلاح النووي؟
– ما باتت تعلمه واشنطن هو أن تل أبيب برغم كل الدعم الأميركي المفتوح إلى حد الشراكة المباشرة، قد فعلت أعلى ما تستطيع فعله، وليس بين يديها إنجاز تعرضه للمقايضة، وأن المقاومة لم تصل بعد إلى أقصى ما تستطيع فعله، وأن جيش الاحتلال بدأ يدخل مرحلة الإنهاك والاهتراء، في حرب برية تسيطر على قواعدها قوى المقاومة من غزة إلى لبنان، وخصوصاً في لبنان، وأن عليها وعلى تل أبيب التواضع الدبلوماسي والإقرار بأن وقف الحرب لم يعُد بذاته مكسباً لشعوب المنطقة، بل هو يتحوّل تدريجياً إلى وصفة ضروريّة لتجنيب تل أبيب رؤية مشهد الرقص على أشلاء جيشها، وقوى المقاومة لا تمارس المبالغة، فهي بقيت متواضعة طيلة أيام الحرب، أهدافها بسيطة، تتلخّص بإنهاء الحرب، أي الاعتراف بفشلها في كسر إرادة المقاومة وقبول العودة للتساكن معها، بمعزل عن كل الشعوذات حول شروط إضافيّة حول سلاح المقاومة في لبنان وتطويقه، أو حول دور المقاومة في غزة ومشاريع عزلها، فهذا هراء يحتاج نصراً إسرائيلياً مستحيلاً.
– ندخل مرحلة الدبلوماسية التي لا تستطيع التهديد، لكننا لم ندخل بعد مرحلة الدبلوماسية التي تملك الاستعداد لدفع ثمن إنهاء الحرب، كوصفة ضروريّة لإنقاذ الكيان، لكنها مسألة وقت، حتى يبدأ الأميركي يستعيد من أرشيفه المسار التنازلي لمشاريع وقف النار في حرب تموز، من شرق أوسط جديد، الى قوات متعدّدة الجنسيات والفصل السابع، الى صلاحيات رادعة لقوات اليونيفيل، وكل ذلك انتهى بقبول نسخة واقعية من القرار 1701 عاشت 18 سنة.