أولى

الحرب الآن مع أميركا… وليست مع الكيان الصهيوني

‬ د. جمال زهران*

يخطئ مَن يتصوّر أننا في حرب مع الكيان الصهيوني، بل إننا في حرب حقيقية مع أميركا الاستعمارية بوجهها القبيح، واستراتيجيتها التي تتجسّد في «حتمية».. السيطرة على منطقتنا العربية، للحيلولة دون وحدتها، وتقدّمها، بغرس الخنجر على رقبتها، إذا ما تحرّكت «هفوة» في طريق إعاقة تنفيذ استراتيجيتها، فإنّ القتل العمدي، والإبادة الجماعية، هي الوسيلة لتدمير هذه «الهفوة»، أو «الصحوة»، والإصرار على جعل الأمة العربية والإسلامية في حالة نوم دائم.
فهذه هي أميركا الاستعمارية، التي ساعدت في غرس الكيان الصهيوني، عن بُعد منذ أكثر من مئة عام، حتى ورثت هذا الكيان، بعد الحرب العالمية الثانية، من القوى العظمى القديمة (بريطانيا وفرنسا)، لترعاه، وتنفيذاً للمشروع الأميركي في السيطرة على المنطقة، مع ظهور البترول، فازدادت أهمية الموقع الجيواستراتيجي، في ظلّ خريطة العالم، والتنافس مع الاتحاد السوفياتي، تلك القوى العظمى الصاعدة. فأرادت أميركا حصاره من كلّ ناحية، ليظلّ قابعاً في حدوده، ولا يفكر في الخروج إلى مناطق نفوذ جديدة له، بحيث يخلو العالم وخريطته السياسية تحت نفوذ أميركا والغرب الاستعماري. ومن ثم فإنّ السيطرة الأميركية على قلب العالم وهو المنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط، هي سيطرة على العالم كله، وبما يضعف الطرف المنافس، ويجبره على عدم المغامرة في الصراع مع أميركا وحلفائها. وهي بذلك تنفذ ما أوصى به عالم الجغرافية السياسية الأميركي (ماكيندر)، الذي قال: «إنّ مَن يسيطر على منطقة الشرق الأوسط، فهي قلب العالم، ومركزه، فقد يسيطر على العالم، للموقع الوسطي، ووجود الممرات المائية (بحار ومضايق وقناة السويس)».. إلخ.
وقد تمّ غرس هذا الكيان الصهيوني، كأداة استعمارية، لها وظيفة في عدم تكامل هذا الإقليم، ووضع كلّ دويلاته تحت الضغط والإرهاب والتهديد، بما يساعد على نهب الموارد، مقابل حماية الحكام في كراسيهم، دون الالتفات إلى الشعوب، التي يجب أن تستمرّ في العبودية والتجهيل وتزييف الوعي، واختصار تطلعاتها في «المأكل والمشرب» للعامة، والحياة المرفّهة للخاصة والعملاء، الذين يساعدون في تكريس الأوضاع القائمة. ولذلك قتلوا الزعيم جمال عبد الناصر، وقتلوا مشروعه، وأخضعوا مصر، منذ حكم خليفة ناصر (السادات)، في حماية وخدمة الكيان الصهيوني. ثم التفتوا إلى الجهات المقاومة في لبنان وسورية والعراق، ليتمّ تدميرها بالكامل! كما أنّ دولاً مثل (ليبيا، والسودان، واليمن) كان لا بدّ أن تدخل مرحلة الدمار والتقسيم، وكان من قبل (الجزائر)، لسنوات طويلة، وهكذا تمّ إغراق هذه الدول، مصاحبة، لتفكك الاتحاد السوفياتي وخروجه من ساحة المنافسة. ليظلّ الاستعمار الأميركي، جاثماً على نفوسنا في منطقتنا العربية، بعدما أمّم غالبية نظم الحكم ورموزهم، ونهب كلّ مواردنا، وإفقار شعوبنا. وهنا، فإنّ وجود الكيان الصهيوني واستمراره، يمثلان أهمية كبيرة، لتهديد المنطقة كلها، وتهديد نظم الحكم، وغرس الفتنة، ليحول دون يقظة الشعوب، وتوليد نظم حكم جديدة، منتمية للمنطقة، ومحبة لشعوبها، وحافظة لتراثها وتاريخها، ومن لا يدرك ذلك، ولا يريد أن يصدّق، فليتابع تفاصيل ما يجري داخل كلّ قطر عربيّ بلا استثناء!
وفي هذا السياق، فإنه منذ تفجّر عملية السابع من أكتوبر 2023م، المعروفة بـ «طوفان الأقصى»، والتي عبّرت عن ميلاد إرادة حرة مستقلة، تسعى إلى التحرير والاستقلال، واقتلاع الكيان الصهيونيّ من الإقليم، ومن ثم القضاء على النفوذ الأميركي في المنطقة بأسرها، لتبدأ صفحة جديدة في تاريخها مع تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، إلا واعتبرتها أميركا عملية موجّهة ضدها، وبالتالي لا بدّ من إعلان الحرب عليها، وعلى من فكروا فيها، والانتقام منهم، بل إنهم لم يكتفوا بعقاب خفيف، بل مواجهة شاملة، وصلت إلى قتل الرموز الكبيرة (هنية – نصر الله – السنوار – صفي الدين)، وكذلك القيادات الوسيطة (فؤاد شكر وإبراهيم عقيل وزملاؤهما) وغيرهم. بل إن أميركا نفسها تولّت إدارة المعركة ضدّ الإقليم كله، بدون رحمة أو التزام بقانون دولي أو قواعد الحرب، أو المبادئ الإنسانية، بل أدارتها بأقذر وأسوأ أدوات القتل والحرب، بلا سقف أو قواعد أو حدود.
وقد أعلنت أميركا، من اللحظة الأولى، المساندة الكاملة، لنتنياهو، وعصابة الحكم في الكيان العنصري الاستيطاني، وشجعتهم على الإبادة الجماعية (Genocide)، ولم يلتفتوا إلى منظمات دولية (الأمم المتحدة)، ومؤسسات العدالة الدولية (العدل الدولية – الجنائية الدولية)، ووصل الأمر إلى التهديد العلني والمباشر – إلى حدّ الفجور – لقضاة المحكمتين، وقادة دول، وغير ذلك. بل شجّعوا – وهم المشاركون في إدارة ما يحدث، على هذه الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة والضفة وللبنانيين في لبنان، وفي سورية، على كسر قواعد القانون الدولي، وانتهاكه علناً، وبلا خجل!
ووظفت أميركا الدول الحليفة لها، في الإقليم، في تبريد المواقف وتبريرها، وتوجيهها للضغط على حركات المقاومة (حماس والجهاد على وجه الخصوص)، ومحاولة الوصول إلى اتفاقيات هزيلة، دون وعود بوقف الحرب، أو الانسحاب من غزة، ودون التزام بإعادة التعمير، بل دون التزام بفتح الحدود والمعابر لتوصيل المساعدات لشعبنا العربي في غزة، وسط صمت حقير من جامعة تسمّى جامعة دول عربية، ونظم عربية ونظم إسلامية، ودون أيّ موقف يعبّر عن الشعوب الغاضبة، التي تمّ قهرها، إلى حد عدم الاهتمام بأصواتها أو رأيها!
فقد قتلت قوات جيش الاحتلال، الصحافيين والإعلاميين، بما يقرب من (200)، آخرهم مَن استشهدَ من قناتي «الميادين» و»المنار»، صباح يوم الجمعة 25 أكتوبر تشرين الأول الحالي، في عمارة مدنية في جنوب لبنان، معروف أنها لإقامة الإعلاميين! وهي من جرائم الحرب المعروفة! فمن يحاسب هذا الكيان المدعوم أميركياً وأوروبياً، وهم الذين يتظاهرون بالتباكي على شعب لبنان وفلسطين، بشرط أن يستسلموا للإرادة الأميركية الصهيونية! وهم في الأصل يُصرّون على قتل روح الإرادة، والمقاومة في نفوس أبناء المنطقة، وهو ما لن يحدث نهائياً بإذن الله.
كما أنهم يقتلون الأطباء، ويدمّرون عربات الإسعاف، ويهدمون المستشفيات على من فيها، في غزة ولبنان، بل في سورية، دون رادع على الإطلاق!
والناس يتساءلون، من يوقف هذا العدو الصهيوني، وداعميه الأميركان والأوروبيين، عند حدوده؟! ومن يجبره على الالتزام بقواعد القانون الدولي وتنفيذ قرارات المنظمات ومؤسسات العدالة الدولية، بوقف الحرب، وتقديم المجرمين إلى العدالة الدولية.
لذلك… لا أرى في الأفق، وقفاً للحرب، بل تصعيداً، لأن الكيان، ومُسيّرُه (أميركا)، يُصرّان على التصعيد حتى النهاية، باعتبار أنّ ذلك مسألة وجودية، بل يتحدّثون عن «إسرائيل الكبرى»، مما يستدعي عندنا، ضرورة إعمال وتنفيذ كلّ ما لدينا للقضاء على الكيان الصهيوني، بكافة الوسائل وخلال الأيام المقبلة، وقبل انعقاد الانتخابات الأميركية يوم الخامس من نوفمبر المقبل. بل إنّ الشعوب في كلّ أنحاء العالم مطالبة بالتحرك ضد منشآت أميركا، والكيان الصهيوني، بل إن الشعوب العربية والإسلامية، عليها التحرك لإجبار نظمها الحليفة لأميركا والكيان، على تغيير سياساتها، وإلا فالسقوط هو الحلّ، واستبدالها بنظم حكم وطنية.
وأرى أنه قد حانت ساعة النهاية، لهذا الكيان، وأنّ المقاومة سبيلها النصر لكلّ الوسائل بإذن الله، ودعمه، وحانت ساعة التغيير، وعلينا أن نحشد الجهود لتحقيق هذا الهدف، وفي الوقت نفسه علينا أن نبحث، في ما هو آتٍ بعد انهيار الكيان الصهيونيّ ورحيل سكانه، كما حدث على يد صلاح الدين الأيوبي، بإجبار الصليبيين على الرحيل وتحرير بيت المقدس، ونستلهم في ذلك روح سماحة السيد حسن نصر الله، وكل القادة الرفاق في محور المقاومة، نصركم الله ونصرنا معكم…

*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية،
جامعة قناة السويس، جمهورية مصر العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى