النزوح بين سلبياته الآنية و«إيجابياته» المأمولة…
علي بدر الدين
الحرب المتوحّشة التي بدأها العدو «الإسرائيلي» على لبنان في الثامن من تشرين الأول 2023، أدّت إلى نزوح ما يقارب مليون وخمسمائة ألف مواطن من مناطق الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية وأماكن أخرى، ومرّت حركته بمراحل عديدة.
المرحلة الأولى انطلقت من القرى الجنوبية الحدودية باتجاه عمق المدن والقرى الجنوبية الأخرى، حيث انّ معظم النازحين الأوائل حطّوا رحالهم فيها، والبعض توجه الى مدينة صيدا وقراها والجبل والشوف وإقليم الخروب.
المرحلة الثانية كانت جماعية وكثيفة حصلت بتوقيت متقارب، بعد أن وسّعت «إسرائيل» من دائرة غارات طائراتها الحربية واستهدافاتها التي طالت كلّ الجنوب بمدنه وقراه ومعظم مناطق البقاع، وارتكبت فيها المجازر الجماعية بحق المدنيين حيث قتلت وأبادت عائلات بكاملها ودمّرت وزرعت الرعب في كلّ بقعة ومكان، فاضطر المدنيون الى مغادرة قراهم وبيوتهم على عجل وهم يرون الطائرات المغيرة وهي ترمي صواريخها الغادرة والحاقدة على البيوت أو قريباً منها، ويسمعون هديرها المرعب وأصوات انفجارات صواريخها، فحملوا ما تبقّى لديهم من مال بعد أن سرقت المصارف أموالهم وبعض «الحلى» والمجوهرات وما خفّ وزنه وغلا ثمنه، وبما يرتدونه من ثياب صيفية، وتركوا «المونة» التي أعدّوها بالصيف وخزّنوها في الخزائن و«الكواير» لزوم فصل الشتاء الذي كان على الأبواب، واحتشدوا بسيارات النقل المتعددة ويمّموا وجوههم الى حيث يجدون أماكن آمنة، بدءاً من صيدا وشرقها وضواحيها مروراً بإقليم الخروب والجبل والشوف وصولاً الى بيروت بكلّ مناطقها وأحيائها ومدارسها، التي ضاقت بالنازحين، صعوداً الى مدن الساحل (ضبية، جونية، جبيل، البترون، شكا، أنفة، والقرى التابعة لها، حتى طرابلس التي «تغصّ» بالنازحين الى عكار في أقصى الشمال.
مرحلة النزوح الثالثة بدأت مع العدوان «الإسرائيلي» الهمجي والبربري على الضاحية الجنوبية لبيروت، ثم ساهمت بيانات الإخلاء والإنذار والتحذير الذي يطلقها العدو ولا يزال في مزيد من النزوح، في غير منطقة لبنانية يواصل قصفها وتدميرها وقتل ساكنيها، وتمدّدت لتطال صيدا وحارتها، وبيروت والبقاع وجبل لبنان والشمال. لتشكّل مرحلة رابعة من النزوح المتقطّع من دون ان ينقطع.
هذه المراحل المرّة والأليمة والقاسية من نزيف النزوح المستمر لغاية اليوم، أعادت خلط الأوراق الجغرافية الطائفية والسياسية والتوزع الديموغرافي للسكان وإنْ مؤقتاً، وأنعشت مدناً وقرى اقتصادياً ومالياً ومعيشياً، لأنّ النازحين مضطرون للصرف والإنفاق على الغذاء على أنواعه والدواء والماء والتدفئة والأغطية والثياب والأدوات المنزلية واحتياجات حياتية أخرى لا تُعدّ ولا تُحصى، فضلاً عن كلفة إيجارات البيوت والفنادق والشاليهات والنقليات وغيرها، وهذا ما «أسعدَ» التجار والباعة أصحاب المحال والبسطات، في مناطق النزوح وأكثروا من الشكر على «نعمته»، وربما البعض منهم يتمنّى أن يطول لزيادة الغلّة والربح الوفير. وهنا يصحُّ القول «مصائب قومٍ عند قومٍ فوائدُ».
غير أنّ ما حصل ربما كان له جانب إيجابي قد يؤسّس للآتي، وهو إعادة اختلاط اللبنانيين بشكل واسع، بعد انغلاق وابتعاد وتنافر وتناحر، وباتت جميع المناطق اللبنانية مفتوحة أمام الوافدين (النازحين) الجدد وإنْ كان لزمن محدّد وإقامة مؤقتة، وقد أظهر الجميع تعاطفاً واحتضاناً قد يكون مبالغاً فيه، وقد فُتحت الأبواب المناطقية والطوائفية التي كان يُعتقَد أنها مقفلة بعض الشيء، وهي في الأساس مناطق لبنانية ولجميع اللبنانيين من أقصى الجنوب الى أقصى الشمال.
فهل يُعوّل على ما حصل من متغيّرات داخلية تخدم اللبنانيين وتبني دولة العدالة والمؤسسات تبدأ مع انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة أصيلة و… بعد وقف إطلاق النار وإلحاق الهزيمة بالعدو «الإسرائيلي»، وتحقيق النصر بإذن الله…