نهج التضحية المستمرة… من كربلاء الحسين إلى مقاومة لبنان
فراس رفعت زعيتر
تظلّ عبَر التاريخ محطات خالدة رسمت فيها التضحيات معالم الأبدية وسطرّت بصمات العزّة، متحدّية جبروت الطغيان. فالتضحيات التي تعاقبت على طريق الحق، وعلى رأسها كربلاء الإمام الحسين (عليه السلام) التي أرّخت أقوى معاني الفداء، تتواصل اليوم مع مسيرة المقاومة الإسلامية في لبنان التي زادت في ثباتها وتضحياتها بعد استشهاد قائدها السيد حسن نصرالله. وفي هذا التتابع، نجد أنّ الدماء التي أريقت في كربلاء وتلك التي سفكت في لبنان اليوم تصبّ في نهر واحد، يحفظ إرث القيَم التي دفعت بالأرواح لأجل أن تستمرّ المسيرة.
من كربلاء إلى لبنان:
استمرارية النهج وتكامل الرسالة
تشكّل حادثة كربلاء، مثالاً خالداً عن التضحية المطلقة لأجل استمرارية الفكر، حيث قاد الإمام الحسين (عليه السلام) جيشه الصغير وصحابته في مواجهة طغاة بني أمية، مقدّماً حياته وكلّ ما يملك دفاعاً عن الرسالة. ولم يكن الحسين قائداً عسكرياً فحسب؛ بل رمزاً للكرامة الإنسانية التي تأبى الضيم، ومصباحاً يُنير مسالك الثورة ضدّ الظلم مهما كلف الثمن.
هذه المعاني تتجلى اليوم في مشهد المقاومة اللبنانية، التي أثبتت بمواقفها وصلابتها في مواجهة العدوان الإسرائيلي، إيمانها العميق بقيم التضحية والثبات. وعندما أقدمت آلة الحرب «الإسرائيلية» على اغتيال السيد حسن نصرالله، قائد المقاومة ورمزها، مستخدمة أحدث الأسلحة وأكثرها فتكاً، لم تكن تنوي فقط إنهاء حياة قائد، بل سعت لإنهاء مسيرة كاملة. لكن تماماً كما فشلت محاولة إخماد ثورة الحسين باستشهاده، فقد زاد استشهاد السيد نصرالله من عزيمة المقاومة وأنصارها، مجدّداً روح كربلاء، وكأننا أمام إعادة استحضار لتلك الحادثة الكبرى.
استشهاد القائد:
الرمز الباقي رغم الفناء
لم يكن الإمام الحسين (عليه السلام) حين قدّم نفسه قرباناً في كربلاء، يستهدف انتصاراً عسكرياً ضيق الأفق؛ بل كان يسعى لنقل رسالة الحق عبر الأجيال، متحرّراً من قيود المكان والزمان. وكما في كربلاء، كان السيد نصرالله قائداً يستمدّ قوّته من العقيدة، ويضع بقاء الكرامة والشرف فوق كلّ اعتبار، وقدّم حياته دفاعاً عن الأرض، والمبادئ، والحقوق. جاءت جريمة قتله بآلاف الأطنان من المتفجرات لتعكس مدى الخشية من فكره وتأثيره؛ وكأنّ الأعداء نسوا أنّ استشهاد القائد في معركة الحقّ إنما يزيد من وهج القضية ويعيد تشكيلها بقوة أكبر.
تلك الرؤية، التي يتجلّى فيها عمق الرابط بين كربلاء الأمس ولبنان اليوم، تُبيّن أنّ القائد في كليهما لم يُهزم، بل أصبح رمزاً، يتعاظم تأثيره مع مرور الزمن، ويمنح شعبه ومحبّيه طاقة إضافية لاستمرار المسيرة. ومع انتخاب الشيخ نعيم قاسم أميناً عاماً خلفاً للسيد نصرالله، نرى هذا الامتداد الحيّ للنهج، فالدماء لم تذهب عبثاً، بل أورثت المقاومة قوة ورسوخاً يعكس عمق الإيمان بقضية أسمى من كل شيء.
المختار الثقفي والشيخ نعيم قاسم:
الثأر للدماء وإحياء الرسالة
بعد كربلاء، لم تنطفئ شعلة العدالة التي سعى إليها الإمام الحسين، حيث ظهر المختار الثقفي كرمز جديد، حمل في يديه ثأر كربلاء، وسعى لاستعادة كرامة أهل البيت. فكان ظهوره استكمالاً لتلك الرسالة، إذ وقف في وجه القتلة وسعى لتحقيق العدالة، مُحمّلاً بتركة دماء الحسين وأصحابه. المختار الثقفي شكّل حلقة تالية في سلسلة الثوار، محققاً إرادة الأمة المتعطشة للعدالة والقصاص.
واليوم، ينعكس ذلك المشهد في مسيرة الشيخ نعيم قاسم، الذي جاء ليكمل دور السيد نصرالله، حاملاً ثأر المقاومة وحافظاً لراية القائد الشهيد. إنّ انتخاب الشيخ قاسم لقيادة حزب الله بعد اغتيال السيد نصرالله يمثّل تجديداً للبيعة على مواصلة المسيرة، وتجسيداً لنهج الثأر من الطغيان، لا بالانتقام الضيق، بل بالالتزام العميق بمبادئ المقاومة والتحرر. لقد أخذ الشيخ قاسم دور المختار الثقفي في هذا الزمان، وأثبت أنّ تلك الدماء التي أريقت لم تنطفئ بل تحوّلت إلى وقودٍ يزيد من عنفوان المقاومة وصلابتها.
مشهدية التكامل بين كربلاء والمقاومة:
قضية حق وعدالة لا تعرف الهزيمة
في هذه المقاربة العميقة بين كربلاء والمقاومة اليوم، نلمس امتداداً يضرب بجذوره في صميم الإنسانية. فكربلاء الحسين والمقاومة اللبنانية تجمعهما قواسم مشتركة تمتدّ إلى صلب مفاهيم الحق والعدالة. وكما بقيت كربلاء رمزاً خالداً لكلّ ثائر، فإنّ المقاومة اللبنانية أصبحت رمزاً عالمياً للصمود، تُبقي شعلة التحرر مضاءة في وجه الطغيان. لقد صاغ الحسين بنهجه ومعركته طريقاً للثوار، وجاء السيد نصرالله ليكمل ذات الطريق، ليصبحا معاً أيقونتين خالدتين لا تُنسى.
ختاماً، تُثبت هذه الحقبات المتتابعة من التضحية والفداء أن القادة العظام لا يموتون بفناء أجسادهم؛ بل يحلقون في وجدان شعوبهم وأتباعهم كرموز خالدة للعدالة والمقاومة. وكما استمرّ نهج الحسين بعد كربلاء، فإنّ المقاومة اليوم، بقيادة الشيخ نعيم قاسم، ستبقى راسخة، مستمرة، وقادرة على إعادة رسم خريطة المستقبل، مهما كثرت التحديات وتعاظمت الصعاب…