الفاتح من نوفمبر 1954 ثورة مجيدة بمعانٍ متعدّدة
معن بشور
بعد سبعين عاماً على اندلاع ثورة الفاتح من نوفمبر/ تشرين الثاني التحررية في الجزائر والتي هي امتداد لثورات شعب مستمرة منذ عام 1831 يوم دخول الاحتلال الفرنسي الى الجزائر.. وهي ثورات قدّمت من أجل نيل الاستقلال عام 1962، أكثر من عشرة ملايين جزائري شهيداً في مجازر ارتكبها المحتلّ أبرزها دون شك مجزرة سطيف وقالمة وخراطة وغيرها، التي استشهد فيها حوالي 45 الف شهيد كلّ ذنبهم أنهم خرجوا بعد الحرب العالمية الثانية ليطالبوا حكومة باريس بالإيفاء بوعدها لهم باستقلال الجزائر بعد مشاركة آلاف المقاتلين الجزائريين مع الجيش الفرنسي في تلك الحرب.
وإذا كانت أعوام الاستقلال الممتدة منذ عام 1962 الى يومنا هذا، طعم خاص، ودور خاص للجزائر وثورتها وشعبها تجاه قضايا الأمة في مواجهة التحديات، فإنّ في العام الذي شهد ملحمة “طوفان الأقصى” تجاوزت فيها الجزائر الدور المعروف عن دعمها لفلسطين وللبنان في وجه العدوان الى جملة معان تحييها فينا هذه الذكرى.
أول هذه المعاني هو تلك المعادلة التي أطلقها قادة الثورة الجزائرية بعد الاستقلال مباشرة، وهي انّ استقلال الجزائر لا يكون كاملاً إلا بعد استقلال فلسطين.
هذه المعادلة التاريخية تتطلب من كلّ دولة عربية وإسلامية ان تدرك انّ استقلالها يبقى ناقصاً ما دامت فلسطين محتلة، وانّ ما أعلنه أكثر من مسؤول صهيوني عن خرائط تضمّ العديد من أقطار الأمة كجزء من “إسرائيل الكبرى” التي يتصدّر واجهة الكنيست فيها شعار “دولتك يا إسرائيل من الفرات الى النيل”، هو تأكيد على أنّ استقلال وحرية كلّ بلدان المنطقة مهددان بالتوسع الصهيوني.
وثاني هذه المعاني الاحتضان التاريخي للمقاومة الفلسطينية قبل انطلاقها في 1/1/1965 حتى الآن، وافتتاح أول مكتب لحركة (فتح) بقيادة الشهيد الكبير خليل الوزير (أبو جهاد) الى تدريب أعداد كبيرة من الفدائيين الفلسطينيين، إلى استقبال اجتماعات فلسطينية في لحظات حرجة، الى اتخاذ مبادرات هامة في الظروف المؤلمة التي مرت بها الثورة الفلسطينية.
انّ هذا الاحتضان لكفاح الشعب الفلسطيني هو واجب كلّ دولة عربية وإسلامية وحرّة في العالم، لأنّ مواجهة الظلم والاحتلال في مكان هي جزء من مواجهته في كلّ مكان.
وثالث المعاني انّ الجزائر التي لعبت دوراً هاماً في إدخال قضية فلسطين الى قارات متعددة، لا سيمّا القارة الأفريقية، والى محافل دولية، لا سيّما الاتحاد الأفريقي وحركة عدم الانحياز، أدخلت أيضاً مفاهيم ذات بُعد عالمي للقضية الفلسطينية، لا سيّما مفاهيم الإبادة الجماعية، والتمييز العنصري، والتطهير العرقي وهي مفاهيم كان لها دور كبير في إدخال دولة جنوب أفريقيا على خط الانتصار لفلسطين في محكمة العدل الدولية، التي نأمل أن تستكمل مسارها القضائي بأسرع وقت ممكن.
رابع المعاني هو حرص الثورة الجزائرية على تحصين أمرين في العمل الفلسطيني، وهما أمران كان لهما الأثر الكبير في انتصار الثورة الجزائرية، أوّلهما هو تحصين الوحدة الوطنية الفلسطينية على قاعدة التكامل بين العمل الميداني والعمل السياسي، وقد نجحت الجزائر في مساعيها الفلسطينية حيناً، ولم تنجح حيناً آخر، أما الأمر الثاني فهو الحرص على استقلالية القرار الفلسطيني عن النظام الرسمي العربي والإسلامي والدولي، وهو أمر أدركت أهميته ثورة الجزائر حين نجحت خلال كفاحها الممتدّ لثماني سنوات، أن تكون موضع إجماع عربي قلّ نظيره، وعلى أبواب ثورة الجزائر كان الحكام العرب يتجاوزون كل خلافاتهم.
خامس هذه المعاني هو تأكيد ثورة الفاتح على البعد العالمي للمقاومة الفلسطينية، سواء على صعيد المؤتمرات واللقاءات غير الحكومية (كالمنتدى العربي الدولي لنصرة الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال الذي انعقد في مطلع عام 2010 في الجزائر، وضمّ الآلاف من الشخصيات العربية والإسلامية والدولية)، أو على صعيد المحافل الدولية، لا سيّما في الاتحاد الأفريقي حيث نجحت في تعليق عضوية الكيان الصهيوني كعضو مراقب في الاتحاد، أو في مجلس الأمن الذي استطاعت الجزائر في أجواء ملحمة “طوفان الأقصى” أن تنتزع منه قرارات دولية لصالح فلسطين ودولتها لم يكن ممكناً انتزاعها من قبل، وذلك بفضل جهود الجزائر التي باتت ممثلة للمجموعة العربية والإسلامية في مجلس الأمن لعام 2024.
صحيج انّ الكثير من هذه القرارات قد جرى تعطيله بسبب الفيتو الأميركي، لكن مجرد صدورها أو التصويت شبه الإجماعي عليها، سيشكل قاعدة مهمة لأيّ نضال دبلوماسي الذي ندرك أنه عمل تراكمي لا تظهر منجزاته إلا بعد حين.
انّ التعمّق في هذه المعاني الخمس التي حملتها ثورة الجزائر لأمتها العربية والإسلامية امر في غاية الأهمية اليوم، لا سيّما في ظلّ ملحمة “طوفان الأقصى” التي مهما عظمت تضحياتها وخسائرها تبقى نقطة تحوّل كبير في معركة الأمة في فلسطين ولبنان وسائر قوى المقاومة.
فمثل هذا التعمّق هو الذي يحول دون ان يجعل من إحيائنا لذكريات هامة في تاريخنا مجرد احتفالات فولكلورية لا تترك الأثر المطلوب.