النزوح علامة فارقة في تاريخ لبنان…
علي بدر الدين
تُشكّل ظاهرة النزوح علامة فارقة في تاريخ لبنان القديم والحديث، بل يمكن القول إنها أصبحت واحدة من «مميّزاته» التي يجب «التفاخر» فيها، وقد يكون من أكثر الدول العربية القريبة والبعيدة التي تشهد نزوحاً استثنائياً وربما لمرة واحدة، نتيجة لعوامل طبيعية أو ظروف اقتصادية واجتماعية ومعيشية أو أحداث أمنية وعسكرية تكاثرت في الآونة الأخيرة والأمثلة كثيرة (سورية، العراق، السودان، اليمن، ليبيا، مصر وغيرها). غير أنّ لبنان كان استثنائياً في هذا المجال، بحيث انّ حركة النزوح تمدّدت وطالت كلّ مناطقه، وهي دائمة (كلّ كم سنة) ذهاباً وإياباً ومداورة والأسباب كثيرة ومتداخلة، مرّة بالحروب والإعتداءات والاحتلالات والغزوات والانتدايات والمجازر «الإسرائيلية» المتوحّشة و»الحروب» والفتن الداخلية الطائفية والمذهبية المتنقّلة، ومرّة أخرى بسوء وتردّي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وانعدام فرص العمل في الأطراف.
بالمختصر المفيد، بدأت دورة النزوح إبان عهود المتصرفية وحكم الأمراء والولاة في زمن الاحتلال العثماني (التركي) للبنان الذي دام 400 عام وما قبله وبعده بدءاً من فتن عامي 1840 و1860 الى زمن الانتدابين الفرنسي والبريطاني من 1918، انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى إنتهاء الحرب العالمية الثانية ومنح لبنان «استقلاله» عام 1943 وقبل ذلك نشوء لبنان الكبير عام 1920… ثم الاحتلال الإسرائيلي للقرى السبع في حرب 1948 ونزوح سكانها من دون العودة إليها لغاية اليوم، ثم ثورة 1958 على رئيس الجمهورية آنذاك كميل شمعون، وفي أواخر الستينيات من القرن الماضي نشأت منظمات فلسطينية مسلحة في الجنوب اللبناني على الحدود مع فلسطين المحتلة (العمل الفدائي) وبدأت المعارك والمناوشات العسكرية مع قوات الاحتلال «الإسرائيلي» التي بدأت تستهدف المدنيين وتدمّر بيوتهم مما اضطر معظمهم للنزوح إلى عمق الجنوب أو إلى مناطق أخرى (صيدا، الضاحية الجنوبية وبيروت)، وفي عام 1975 انطلقت شرارة الحرب الداخلية اللبنانية واستمرت حتى اتفاق الطائف 1989/ 1990، وما تخللها من حروب داخلية داخلية بين أكثر من فريق ميليشياوي وطائفي ومذهبي ومناطقي. وكان النزوح الأكبر من بيروت إلى الأطراف في كلّ مناطق لبنان، وظلّ نزيف النزوح من القرى الحدودية مستمراً عام 1978 حيث أنشأ العدو «الإسرائيلي» ما سُميّ بالشريط الحدوي وتأسيس ما تمّت تسميته «جيش حداد» وبعده «جيش لحد» وأمعن مع قوات الاحتلال بممارسات تعسّفية ظالمة ضدّ المواطنين والتضييق عليهم ومصادرة أملاكهم واعتقال الشباب ونقلهم إلى سجونها في داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ما أدّى إلى نزوح واسع من القرى المحتلة، وجاء الاجتياح العسكري «الإسرائيلي» للبنان وبلغ العاصمة بيروت 1982 أدى إلى خربطة خريطة النزوح الذي أصبح عشوائياً ومتنقّلاً واختلط «حابله بنابله» حتى استطاعت المقاومة التصدّي له وإجباره على الإنسحاب شمالاً فهدّأ من عشوائية النزوح في معظم المناطق التي انسحبت منها قوات الاحتلال «الإسرائيلي».
وكانت الاعتداءات الإسرائيلية عامي 1993 و1996 حيث تكرّر فيها النزوح، وفي عام 2000 كان الانتصار الأكبر والتاريخي على العدو الصهيوني، الذي أُرغِم على الانسحاب تحت ضربات المقاومة وعملياتها العسكرية النوعية والاستشهادية ضدّ قواته ومواقعه، وكان الاحتفال بالنصر العظيم، فعاد النازحون من الجنوب والبقاع الغربي إلى قراهم وبيوتهم التي أعادوا بناءها…
النزوح الأوسع والأشمل والأطول بتاريخ لبنان حصل في الحرب «الإسرائيلية» المتوحشة والمستمرة على مناطق لبنانية في الجنوب الذي بدأت في الثامن من تشرين الأول 2023 ثم توسّعت لتشمل الضاحية الجنوبية والبقاع ومناطق أخرى في بيروت وجبل لبنان وصولاً إلى الشمال، حيث قدّرت السلطات الرسمية اللبنانية وجمعيات دولية عدد النازحين بأكثر من مليون وخمسمائة ألف نازح، يعني ما يوازي نصف سكان لبنان المقيم، لأنّ ما يقارب ربع سكان لبنان في المهجر. وسيستمرّ نزيف النزوح بكلّ تداعياته ومخاطره حتى وقف إطلاق النار والحرب الإسرائيلية على لبنان.