أميركا الجديدة و«إسرائيل» الجديدة مقابل العولمة والصهيونية
ناصر قنديل
– ثمّة احتمال كبير أن تقف الدولة العميقة في أميركا التي تقودها مجموعة لوبيات ثقافية وسياسية ليبرالية وتموّلها شركات مالية ضخمة، وراء فرض فوز نائبة الرئيس كمالا هاريس المرشّحة عن الحزب الديمقراطي، وتفرض فوزها حتى لو جاءت صناديق الاقتراع بعكس هذه النتيجة، وتخاطر بتعريض الداخل الأميركي لهزة كبيرة، يقول البعض إنها قد تكون مدخلاً لحرب أهلية لا يمكن تجنبها في ظل الاستقطاب الحاد الذي يرافق الانتخابات الرئاسية. وقد تفوز هاريس دون الحاجة للتلاعب بالانتخابات وفرض نتيجة غير مطابقة للتصويت، وقد تقرّر الدولة العميقة التفاوض على صفقة مع رجل الصفقات دونالد ترامب، أو تتخذ الحياد بسبب انقسام مكوّناتها حول الخيارات الرئاسية. ولعل هذه الفرضيّات تستمدّ مصداقيتها من اضطراب المشهد السياسي والإعلامي حول اتجاهات الانتخابات، وارتباك استطلاعات الرأي، بل الناخبين أيضاً الذين يقولون بنسبة 60% إنّهم غير راضين عن خياراتهم الرئاسية، كما قال استطلاع رأي لشركة ايبسوس أول أمس، ورد فيه أن 75% من المشاركين في الاستطلاع قالوا إن أميركا تسير بالاتجاه الخاطئ.
– هذا التخبّط في الرأي العام الأميركي ليس مجرد تعبير عن ضبابيّة الخيارات فقط، أو عن ضعف مصداقية المرشحين الرئاسيين واليأس من صيغة الحزبين وما تتيحه من خيارات وحسب، لأن الضبابية وضعف المصداقية واليأس هي بذاتها تعبيرات عن شيء آخر، هو بلوغ الإمبراطورية الأميركية مرحلة الشيخوخة، ودخولها مرحلة الأفول أسوة بكل الإمبراطوريات عبر التاريخ التي تبدأ بمسار انحداري بعد بلوغ الذروة، ولا تلبث أن تشيخ وتذبل وتتفكك، وربما تنفجر من الداخل، ولم يمضِ بعدُ وقت طويل على تجربة مشابهة عاشها الاتحاد السوفياتي الذي تفكك قبل ثلاثة عقود ونيّف، وهو ما تعيشه أميركا منذ تفكك الاتحاد السوفياتي وتسيّدها منفردة على عرش العالم، ودخولها زمن العولمة ومعه إنجاز الانتقال من مرحلة اقتصاد الأصول الثابتة إلى مرحلة الاقتصاد الافتراضي، وما رافق ذلك من جهة، من أوهام حكومة عالمية افتراضية تلغي الخصوصيات والثقافات والأديان والعقائد والوطنيات، وتتيح السيطرة على العالم بوسائط التكنولوجيا وما تؤمنه في عالم انتهاك الحقوق والحريات للأفراد والجماعات، والتلاعب بالعقول والصحة والموروثات الجينية ونشر الأوبئة وتحدّي الفطرة البشرية الطبيعية بتبني دعوات المثلية الجنسية وترويج اختيار الهويات الحيوانية للبشر، ومن جهة مقابلة من ركام واهتلاك للبنى التحتية التقليدية لاقتصاد السلع والبناء والتعليم والصحة.
– كانت معايير العولمة تدخل كل شيء، خصوصاً ميدان الحروب وبناء الجيوش بالأوهام ذاتها، وأصبحت الشركات هي التي تخوض الحروب، وصارت الجيوش بلا روح، وصارت التكنولوجيا إلهاً جديداً، وتحوّلت الجيوش إلى مرتزقة محترفين، أقرب إلى عصابات القتل المأجور، ونتج عن هذا المسار تراجع القدرة على الفوز بالحرب مع اختبار نظرية الفوز بحروب خسائر صفر، ودون أن تطأ أقدام الجنود الأرض، بينما ترتب بالتوازي بنتيجة هذه الرعونة في إدارة العالم نهوض دول وأمم وشعوب، تلاقت على مفهوم الدفاع عن استقلالها الوطنيّ والحفاظ على خصوصياتها الثقافية والقومية والدينية، وخاضت معارك إضعاف مشروع الهيمنة الأميركية، ومثلما تقدّمت روسيا صفوف التنافس على المكانة العسكرية الأولى مع أميركا، خاضت الصين المنافسة على المكانة الاقتصادية الأولى، وقادت إيران وقوى المقاومة حروب استنزاف متعددة بوجه الهيمنة الأميركية. وكانت حرب الدفاع عن سورية بوجه الحرب التي شنتها أميركا وجندت لها كل من استنفرتهم لمفهومها الجديد عن العالم، ساحة المنازلة الحاسمة بين المعسكرين. وكانت خسارة أميركا التي جنّدت وحوش الإرهاب لخوض حربها نيابة عن جيوشها العاجزة عن تحمل كلفة الدم، مقدمة لإعلان نهاية احتلالها لأفغانستان، والفشل العسكري لأضخم قوة عسكرية عالمية متفوّقة تكنولوجياً، على مقاتلين تصفهم واشنطن بالبدائيين. وجاءت حرب أوكرانيا وحرب غزة ثم لبنان، تفضح كل منها بنسبة جديدة محدودية القوة الأميركية. وبدأت الأحلاف التي تجمعت حول الصعود الأميركي تنأى بنفسها عن السياسات الأميركية وتبحث عن التشبيك مع القوى الصاعدة.
– في قلب هذا التراجع ولدت الترامبية، يقودها شخص غير متّزن وغير متوازن، لكنه يمثل بجموحه تطلّب الغاضبين من منظومة العولمة الحاكمة. ومنذ الانتخابات الرئاسية التي فاز بها عام 2016 كان الانقسام بينه وبين المرشحة هيلاري كلينتون، كما هو اليوم بين معسكر دونالد ترامب ومعسكر كمالا هاريس أقرب ليكون انقساماً بين النخبة السياسية والمالية التي تحتلّ مراكز الإدارة في المصارف والبورصات والصحف وغالبية وسائل التواصل وفرق التفكير ووزارة الخارجية والمخابرات ومشروع العولمة ومعها غالبية سكان المدن أصحاب ثقافة الاستهلاك ودعاة الليبرالية من أعراق غير بيضاء ودعاة حق الإجهاض والمثليين ومقابلها حالة شعبوية ممتدة في المدن الصغيرة والأرياف وشركات الصناعة والمقاولات وأصحاب العقارات والعصبية البيضاء والمحافظين المتدينين ومعهم كل خليط ركام العولمة غير المتجانس، يؤيدون ترامب تحت شعار الأمركة لا العولمة، وأميركا العظيمة لا أميركا العظمى.
– هي أميركا جديدة غير أميركا التي ولدت من سياق ما بعد الحرب العالمية الثانية تواقة لقيادة العالم. أميركا الجديدة تمثل عصبية أميركية هجينة نواتها بيضاء وبروتستانتية، وقوتها الاقتصادية من روافد كل القطاعات التقليدية التي دمرتها العولمة أو تهدد بتدميرها، ولعل فوز جو بايدن عليها في الانتخابات السابقة هو المعاكس لطبيعة الأشياء، كما هو احتمال فوز كمالا هاريس هذه المرة، وليست معلومة كيفيّة تأثير صعود أميركا الجديدة التي يقودها رجل اتخذ شعاراً له عنوان كتابه “الصفقة” على فك وتركيب الدولة العميقة وفرض اصطفافات جديدة فيها، عبر أكثر من صفقة. وقد سبق لترامب أن عقد صفقات عديدة في ولايته الأولى فنفذ السياسة الخارجية المعاكسة لشعار الخروج من الحروب يوم قرّر ثم تراجع عن قرار الانسحاب من سورية.
– ما ينطبق على أميركا ينطبق على كيان الاحتلال، حيث ولدت خلال عقدين “إسرائيل” جديدة، حيث لا مكان للعلمانيين ولا لثقافة المؤسسين عن أن “إسرائيل” جزء من الغرب في الشرق، وحيث المستوطنون المتطرفون هم عماد “إسرائيل” الجديدة، ومثلما يمثل أميركا الجديدة مهووس بالسلطة والمال صعد على ظهر “إسرائيل” الجديدة بنيامين نتنياهو المهووس بالسلطة والمال، وجنون العظمة يسكن الشخصين بصورة متشابهة. و”اسرائيل” الجديدة التي يشكل صعودها نوعاً من الرد على الفشل العسكري المتلاحق الذي أصيب به جيش الاحتلال، تظهر مستعدة لتحمل بذل الدماء ومستعدة لخوض حرب طويلة، ومستعدة لتحمل القتال في ما أسماه بن غوريون بأرض “إسرائيل”، ولكن كما تتفكك أميركا تتفكك “إسرائيل” وصعود أميركا الجديدة لن ينقذ أميركا من آخر نسخة من قديمها، كما لن ينقذ صعود “إسرائيل” الجديدة الكيان في مواجهة لعنة الوجود، فهذا الصعود هو من علامات الاحتضار لا التعافي.
– إسرائيل الجديدة لا تريد جو بايدن الصهيونيّ، لأنها ليست عالمية ولا صهيونية، بل هي دولة يهودية دينية. وأميركا الجديدة لا تريد كمالا هاريس الديمقراطية لأنها لا تريد العولمة التي كانت آخر مبتكرات أميركا، فهي أميركية فقط، لكن الفرادة هنا هي أنه لا تصحّ معادلة أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً، بل العكس هو الصحيح، لقد جئتم بعد فوات الأوان وما كُتب قد كُتب.