إمام الأخلاق والمقاومة*
ناصر قنديل
– لم نكن نعلم عندما اختار السيد حسن نصرالله أن يدعونا لمشاركته الاحتفال بأربعين عاماً على ولادة حزب المقاومة، أنه يهيئ المسرح لأربعينية شهادته، وللأربعين مكانة خاصة في ثقافته المتصلة بكربلاء الإمام الحسين. ولم ننتبه عندما قلنا له لو خضت بنا البحر لخضناه وراءك أننا نبايع إمام عصرنا، والإمامة هي قيادة سياسيّة يتبوأها رجل دين، يقود شعبه بقوة التفوّق الأخلاقيّ ويبلغ مرتبة القداسة لنقاء سريرته وطهره، ومرتبة العبقريّة لما يبتكره من حلول ونظريات وما يرسمه من سياسات، ويبهر إلى حد الإعجاز بما يراكم من إنجازات، وما يولد على يديه من انتصارات.
– تحت عباءات أئمة بحجم السيد محمد باقر الصدر والسيد موسى الصدر ومن بعدهما الإمامان الخميني والخامنئي، وصولاً لأستاذه السيد عباس الموسوي، ولدت الشخصية الاستثنائية لهذا الإمام، وهو يفكك ألغاز السياسة والعلاقات الدولية والمشاريع الاستعمارية، وينسج عباءة جديدة لإمامته، بأفكار ورؤى أدهشت من لا ينتمون لعقيدته بمثل ما رفعته الى مرتبة القداسة عند من آمنوا به ديناً ودنيا، فحلّ معضلة العلاقة بين التحرير والوحدة التي استنزفت عقول قادة حركة التحرّر العربية لعقود مضت، وقدم مثالاً تجربة المقاومة في لبنان وهي تهزم الاحتلال بأقل مقادير الوحدة، وأضعف نصاب للإجماع، وأضيق مساحة للأوطان.
– قدّم الإمام المقاوم نموذجاً مغايراً لرجل السياسة، حيث كان السائد هو اشتراط التنازل عن التزام الأخلاق شرطاً للفوز في حروب السياسة، وهو لم يأت بمجرد رفض هذا التنازل والتمسك بمعايير الأخلاق، بل جاء بمعادلة رفعت التمسك بالأخلاق الى مرتبة جعلت الربط بين السياسة والأخلاق شرطاً للفوز، وهذا هو مضمون الإمامة، أي تقديم معادلة جديدة تتحول الى مدرسة. ومدرسة الفوز بالتفوق الأخلاقي لها كثير من المصاديق في سيرة هذا الإمام، وتحويل هذه القيمة المضافة إلى مدرسة تجد شواهدها في مسار جديد ولد على ساحة السياسة الدولية، تحول معه الاستثمار على التفوق الأخلاقي منصة سباق وتنافس بين الدول والأحزاب، حيث الخسارة مؤشر على خسارة الحرب والربح دليل مسبق على حتمية ربحها، وحيث الالتباس في الكفة الراجحة في التفوق الأخلاقي تقدم التفسير لحروب يصعب إنهاؤها.
– قدّم إمامنا الشهيد معادلته لحزب يزهد بالسلطة، حتى يصبح أول حزب لا ينص ميثاقه على السعي لتسلّم السلطة، سواء عبر الثورة أو عبر الانتخابات، وفي سيرة حزب الله الكثير من الوقائع التي تثبت ابتكار معادلة الشراكة في القرار الوطني الاستراتيجي عبر نصاب ضامن (الثلث الضامن) لحق النقض (الفيتو) بدلاً من إغراء امتلاك نصاب يتيح احتكار القرار (الثلثين) أو نصاب الأرجحيّة (الأغلبية المطلقة)، وحيث الحلفاء والأصدقاء يلومونه على هذا التواضع، وربما يحمّله بعضهم مسؤولية فشل مشاريعهم بالإمساك بالدولة، وبعضهم يحمله مسؤولية فشل مشاريع الثورات الناقصة والعرجاء، كان الإمام متمسكاً بمعادلات السلم الأهلي، وهو القوي الذي لا يعرف خوفاً من منازلة، لكن الواثق بأن معركة المقاومة تستحق حصريتها وعدم السماح بمنافستها بمعارك أخرى، وكانت هذه واحدة من إضاءاته الثرية للسلم الأهلي كإمام للأخلاق والمقاومة، كما قالت تجربة تحرير الشريط الحدودي عام 2000 التي تحمل توقيعه الحصري.
– كان إمامنا يردّد في خطابه معادلة الأمتين العربية والإسلامية، دون أن يجد بينهما تنافس أو تناقض، ما أتاح المجال الفكري كي يتسع المجال للتصالح مع أي مفهوم أو نظرية للأمة، كمفهوم الأمة السورية أو سواها، بشرط أن ينسجم مع قاعدة احترام معياري وحدة النسيج الاجتماعي ومقاومة الاحتلال، وهو بذلك أول مَن تجرأ على القول بأنه يمكن أن تكون منتمياً إلى أكثر من أمة، فأنت في بلاد الشام جزء من الأمة السوريّة، وأنت بلغتك العربية جزء من أمة عربية، أُنزل القرآن بلغتها، وأنت في فضاء حضاريّ وثقافيّ صنعه الإسلام، لتكون مسيحياً أو مسلماً أو علمانياً في أمة إسلامية، طالما أن القدس وفلسطين بوصلة لا حياد عنها.
– كان إمامنا متحرّراً من عقدة النصاب اللازم للنصر، وقد خاض غمار حروب علمته وعلمنا على أساسها، أن الإجماع وهم وسراب، وأن الأغلبية ليست ضرورية، وأن هناك نصاباً كافياً لأقلية صلبة تمثل روح الأمة، وقد وجد في تلاقي سورية ولبنان روح الأمة السورية، وفي تلاقي المقاومات اللبنانية والفلسطينية واليمنية والعراقية روح الأمة العربية، وفي تلاقي هذه المقاومات كروح للأمة العربية مع الجمهورية الإسلامية في إيران روح الأمة الإسلامية، وهو نصاب كافٍ لصناعة النصر، شرط أن يجتمع مع التفوق الأخلاقي والحكمة والشجاعة، فقد قدّم لنا تجربة النصر في التحرير بنصاب لبناني مشابه، وقدم لنا نصر المقاومة في حرب تموز 2006 بنصاب لبناني أصعب، والنصر على المشروع الأميركي العربي الغربي الإقليمي الإرهابي ضد سورية، مثال النصاب اللازم لتحقيق النصر، وجاء طوفان الأقصى يقدّم مثالاً جديداً على مفهوم النصاب اللازم، ومن بعده جبهات الإسناد لتزيد الحقيقة وضوحاً وسطوعاً.
– كان الإمام الحسين مثال إمامنا الأعلى كما يقول نصه دائماً، وكان يؤكد أن الروح الحسينية شرط لتحقيق النصر، لكنه كان يرى أن زمن كربلاء لن يتكرّر، فالروح حسينية لكن المعركة خيبرية، نسبة إلى معركة خيبر التي خاضها وانتصر فيها الإمام علي، على الأجداد الذي يزعم قادة الكيان الانتساب لهم، ولذلك وثقنا بأنه سيكون حاضراً بجسده وسبابته يرفع شارة النصر ويبتسم، قائلاً، ألم أعدكم بالنصر دائماً ومجدداً وأبداً، ثم يضيف، ألم أقل لكم إن إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت، وفي لحظة صعبة اكتشفنا أنه يمكن أن يُستشهد الحسين في خيبر.
– * بمناسبة أربعين يوماً على استشهاد الإمام السيد حسن نصرالله.