الإفراط في استخدام القوة والطاقة التدميرية يراكم العجز
} د. حسن أحمد حسن*
لم يعُد المتابع العادي بحاجة إلى بذل الكثير من الجهود وإعمال التفكير العميق لفهم حقيقة الملامح العامة لما تشهده المنطقة من أحداث وتطوّرات مفتوحة على المجهول، فالتداعيات التي تبلورت منذ انطلاق الموجة الأولى من ملحمة طوفان الأقصى وحتى اليوم تؤكد أن الحرب الدائرة على جغرافية العديد من أقطاب محور المقاومة إنما هي حرب أميركيّة بامتياز، وقد أسندت مهمة التنفيذ المباشر للكيان السرطاني الذي تطابقت مصالحه بزعامة نتنياهو مع مصالح المشرفين على مطبخ السياسة الأميركية المهيمنة وعلى غالبية مفاصل صنع القرار الدوليّ، وقد ساءهم أن يروا المحور المقاوم مصمّماً على رفض الخضوع والإذعان لما يمليه فراعنة العصر، ومستعداً للدفاع عن المصالح الوطنية العليا لجميع أطرافه بغضّ النظر عن اليقين بحتميّة التكلفة الباهظة والفاتورة الكبيرة المطلوب دفعها عاجلاً أم آجلاً، في حين أن غالبية دول العالم منذ بداية الألفية الجديدة تحاشت جنون القوة الأميركية المتوحشة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001م. وتسابقت لتبنّي كل ما يصدُر عن حكومة الظل في الدولة العميقة، في حين بقيت دول قليلة بما في ذلك بعض الدول العظمى تتعامل بحذر شديد مع نزعة الاستكبار الأميركية، وتسعى جاهدة لتجنّب إغضاب بلاد العم سام التي سوّقت نفسها على أنها قدر لا طاقة لأحد بمواجهته ولا الوقوف أمام الرأس القاطر لعرباته المتخمة بأدوات القتل والدمار ونشر الرعب والموت في كل اتجاه، لكن أطراف محور المقاومة لم تلتزم بهذه الخلاصات، ورأت أنه من غير المبرّر التسليم المسبق بانتصار العدو، وأنّ الخوف من تكلفة عدم الخضوع والإذعان لا يلغي الأخطار التراكميّة اللاحقة، ولا يمنح من يتبنّون خيار الصمت والمراعاة والالتصاق بالحائط صكّ براءة يُعفيهم من العقاب في أي لحظة يخطر فيها ببال أحد القتلة من أصحاب نظرية الإفراط في استخدام القوة العسكرية والطاقة التدميرية لضمان تدجين من يرفض الإقامة داخل الحظيرة الصهيو ــ أميركية، ومع تطور الأحداث وتداعياتها التي أخذت شكلاً دراماتيكياً بعد ملحمة طوفان الأقصى تبيّن لكلّ من يريد رؤية الحقيقة أنّ فاتورة إغضاب الأميركي ثقيلة على الحمل، لكن مهما ارتفعت تبقى أقلّ بكثير من فاتورة إرضائه، لأن الطغمة المسؤولة عن رسم آفاق الاستراتيجية الأميركية لا تقبل وجود الشركاء ولا الخلفاء، بل الأتباع ومنفّذي ما يتمّ اتخاذه من قرارات من دون مناقشة ولا تفكير بمضامين ما يتمّ اعتماده في شتى الجوانب، وبالتالي هي مفتوحة على المجهول المتضمّن إمكانية الطلب من الأتباع توقيع أوامر إعدام سياسيّة بحق كياناتهم. وفي تلك الحالة لن يكون بإمكان أولئك إلا هزّ الرأس والتوقيع بكلّ حب ورضا. وهنا تظهر أخطار وتهديدات الطامة الكبرى المؤجلة إلى أن يحين وقتها وتنضج البيئة الاستراتيجية المطلوب تهيئتها للفصل ما قبل الأخير من مشروع إحكام السيطرة على العالم انطلاقاً من البوابة الشرق أوسطية، وكي لا يبقى الكلام نظرياً يمكن للمتابع العادي استحضار أي لقاء يجمع مسؤولين أميركيين مع أي من أنظمة التطبيع التي قطعت أشواطاً على هذه الطريق، أو تلك التي في طريقها إلى التطبيع، لكنها متخوّفة من النتائج الحتميّة لأسباب عدّة منها الموضوعيّ ومنها الذاتيّ، ولن يتطلب فهم الحقيقة المزيد من الجهد لاكتشاف أنّ السلوك الأميركيّ العمليّ يتضمّن تجسيداً فعلياً لمضامين الخطاب العنصري الصهيوني الذي يصنّف مَن لا يذعنون لتوحش حكام تل أبيب بأنهم أدنى من البشر «حيوانات بهيئة بشر»، ومن يرتضي لنفسه وشعبه أن يكون بين الحيوانات التي سخرها إله «بني إسرائيل» وفق المنطق التوراتي والتلمودي المشوّه فهذا شأنه، وبإمكانه أن يسعى لتسويقه كما يشاء، لكن لا يحق له أن يفكّر عن غيره، ولا أن يستنكر على من يتبنون نهج المقاومة أي قرار متعلق بمختلف جوانب حياتهم الشخصية والعامة، كما لا يحقّ لمن راقت له عربة التطبيع، واستطاب التمتع بالتربيت على كتفه من قتلة الأطفال وناحري الإنسانية أن يهاجم من له قناعات مختلفة ومتناقضة، وهي تستند إلى معطيات الواقع القائم، ليس في هذه المرحلة من التاريخ فحسب، بل عبر تاريخ البشرية على امتداده الطويل. وقد يكون من المفيد والمهم هنا الإشارة إلى بعض الأفكار المتعلقة بالواقع الحالي الذي تعيشه المنطقة والاستعصاء المزمن والمتفاقم لصراع مركب وعميق وجذري، ولا تبدو في الأفق حتى الآن أيّ قرائن تفيد بالاقتراب من خط النهاية، ويمكن الاكتفاء بذكر بعض النقاط والأفكار لتوضيح الصورة، ومنها:
*أي حديث عن موعد الاقتراب للتوصّل إلى اتفاق أو تفاهمات أو رؤى تقدّمها واشنطن ومَن معها لإخراج المنطقة من فوهة البركان المشتعل لا يعدو أن يكون ذراً للرماد في العيون بهدف منح آلة القتل والتدمير والإبادة الصهيونيّة المزيد من الوقت، والفرصة تلو الأخرى لإتمام الإبادة الجماعية الممنهجة والمستمرّة منذ الساعات الأولى التي تلت عملية طوفان الأقصى في 7/10/2023م.
*عقم التعويل على إرادة مجتمع دوليّ وشرعية دولية وصحوة ضمير إنساني عالمي لسبب بسيط وجوهري، وهو أنّ هذه المصطلحات وما شابههما شكل بلا مضمون، فالمضمون مصادر ومرهون لتنفيذ مخرجات دورة القرار الأميركي.
*إمكانية الاستجابة الرسمية لأدنى متطلبات الضمير العربي والإسلامي هي في حدودها الدنيا، وكل الأنظمة المطبّعة ليست صاحبة قرار، ولن تكون الأنظمة الراغبة بالتطبيع أفضل حالاً، ومن هنا تصبح مهاجمة تلك الأنظمة أقرب إلى العبثية، لأن التهجّم وإطلاق النعوت السلبيّة يزيد الطين بلة، ولا يغيّر الواقع الذي يحكم تلك الدول ويتحكم بها بما يخدم تنفيذ الأجندة الصهيونية، وقد تكون الجدوى الممكنة أضعاف ما هي عليه إذا تمّ استبعاد لغة التهجّم ورفض تقليد المنطق الأميركي: (كلّ من ليس معنا هو ضدنا).
*الدمار الكبير والخسائر الكارثية التي لحقت بأطراف محور المقاومة، لا يعنيان أن الكيان الاستيطاني الإسرائيلي ومن معه بوضع مريح، ولا تنفي الآثار الأكثر كارثية على المشروع الصهيو ــ أميركي بغض النظر عن حجم الخسائر التي تكبّدها العدو، وهي كبيرة، وإنْ تمّ التستر عليها وإخفاء ما يمكن إخفاؤه منها، فضلاً عن أن تداعياتها الحتميّة تدخل في التصنيف الاستراتيجي الذي يصعب تعويضه، في حين أنّ بإمكان محور المقاومة الترميم والتعويض وبزمن قياسيّ عن كلّ ما خلفته نزعة القتل والإبادة الصهيونية المدعومة أميركياً وأطلسياً، والفرق أشبه ما يكون بين الجراح وإنْ كانت عميقة وبين الكسور التي تصيب العمود الفقريّ والجمجمة.
*ما أنجزه المقاومون في مختلف جبهات القتال على الصعيد الميدانيّ المباشر يفوق كلّ تصوّر. وهذا كافٍ للثقة واليقين بأنّ النتيجة النهائيّة لمسرح العمليات الميدانية لن تكون إلا لصالح أصحاب الأرض والحق، ووفق مشيئة جنود الله على الأرض والتكامل الإبداعي بين الوحدات القتالية التنفيذية وبين مفاصل دورة اتخاذ القرار، وهذا أيضاً كفيل بتأجيل الرؤى والاقتراحات والانتقادات التي يقدّمها هذا الشخص أو ذاك، وإنْ كانت الخلفية نقية وترتكز إلى الرغبة المشروعة والجامحة بكسر قرن الشيطان الأكبر وتابعيه في أقصر وقت، فكسر ذاك القرن أمر تتقنه دوائر اتخاذ القرار المقاوم بالحسابات الدقيقة التكتيكية والعملياتية والاستراتيجية، وليس بإطلاق العنان للرغبات والعواطف التي يمكن تنظيم ظهورها بطريقة أكثر جدوى ومردوديّة.
*ارتفاع سقوف الأهداف العدوانيّة التي أعلنتها تل أبيب وتبنّتها واشنطن، والعجز عن بلوغها لا يبرّر التوحّش والإجرام الذي لم تشهد له البشرية مثيلاً، ومع ذلك وعلى الرغم من كل ما حدث أو قد يحدث من المهم التذكير بأنّ الحرب مكاسرة إرادات، وإرادة عشاق نهج المقاومة أقوى وأصلب وأمنع وعصيّة على الكسر، وليس الوضع كذلك لدى قتلة الأنبياء والأطفال وسفك الدماء، ولم يشهد التاريخ البشريّ انتصاراً نهائياً لإرادة الإجرام على إرادة رفضه وتقويض روافعه، وإنْ كسب المجرمون بعض الجولات المؤلمة، لكن اللوحة تتبدّل وبتسارع أكبر مما قد يبدو للمتابع العادي، والآتي من الأيام والليالي ونتائج الميدان كفيلة بتوضيح الصورة أكثر فأكثر…
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية.