كفى… ارفعوا أيديكم عن النازحين
علي بدر الدين
من حقِّ البعض أن يسأل، لماذا التركيز على موضوع النازحين اللبنانيين فقط من دون سواه، والبلد يزدحم بتداعيات الحرب «الإسرائيلية» الخطيرة والكارثية، ومنها بطبيعة الحال النزوح؟ بالطبع لن يكون السؤال من باب الاستهانة بالنازحين أو بالدعوة إلى تجاهلهم، وربما يكون «لفتة نظر» لا أكثر ولا أقلّ، على ألّا يكون سؤال حقٍّ يٌراد به (منه) باطلاً.
إنه تساؤل قد لا ينمُّ عن جهل أو تجاهل لموضوع النزوح غير المسبوق في كلّ الحروب الإسرائيلية الهمجية على لبنان، إن لجهة عدد النازحين الضخم الذين تدفقّ كالسيل الجارف باتجاهات مناطقية عشوائية مختلفة، أو لجهة التوقيت غير المناسب الذي حصل فيه النزوح، في ظلّ صراعات وسجالات عالية المنسوب سياسياً وحزبياً وطائفياً، والفراغ في رئاسة الجمهورية والشلل الذي يُصيب حكومة تصريف الأعمال، واعتبار مجلس النواب هيئة انتخابية وليست تشريعية، إضافة إلى ترهّل وتفكك وتعطّل مؤسسات وإدارات رسمية، ليس بإمكانها سدّ الفراغ أو مواجهة تداعيات الحرب الإسرائيلية ومنها أزمة النزوح الكبيرة.
لا يمكن والأوضاع على هذا النحو من الخطورة إغفال الانهيارات الاقتصادية المتتالية والإفلاس المالي وسرقة أموال المودعين من المغتربين والمقيمين، وكلها عوامل ساهمت مباشرة في تعميق أزمة النزوح وزادت من معاناة النازحين إلى حدّها الأقصى على الأصعدة كافة، اقتصادية واجتماعية ومعيشية وقلّة مادية ونفسية، وما يرافقها من توتّرات وإشكاليات في غير منطقة تحت شعارات وعناوين ومبررات واهية لا يشتّمّ منها سوى التعبير عن أحقاد وكراهية و»شماتة» وانتقام، تغذّيها للأسف مواقف ودعوات وإجراءات تصدر من هنا وهناك و»تصبُّ فيها الزيت على النار» بدلاً من تهدئة الأمور وكبح جموح النفوس الشريرة التي ربما تسعى إلى الفتنة أو التهويل بها.
هل نسيَ البعض السائل، أنني نازح وأعاني كما يعاني «زملائي» النازحون، وأنّ المرء في أي مجال كان عمله أو مهنته وكانت منطقته وطائفته هو إبن بيئته يتأثّر فيها وقد يؤثِّر فيها وإنْ بنسبة قليلة، وأنه بحكم الشراكة و»الزمالة» يتلقّي «الضربات» والظلم والاستهتار .
من الضروري أن تتحوّل قضية النازحين إلى قضية رأي عام، وأن تحظى بتغطية ومواكبة إعلامية، لأنها قضية حق وبحجم الوطن.
وأعتقد كما غيري أنّ موضوع النازحين يختصر معاناة اللبنانيين جميعاً، لأنّ أثقال النزوح وضغوطه كبيرة جداً ويتشعّب منها ما هو وطني وإنساني وأخلاقي واقتصادي ومالي ومعيشي ومتغيّرات أو تأثيرات ديمغرافية واجتماعية وتربوية وربما تطال العادات والتقاليد وأنماط العيش، وقد تنعكس أولاً في مراكز إيواء النازحين، وهناك الكثير مما يُقال ومما يُعلَم ولا يقال، على ضوء ما نشهده كل فترة وفي غير منطقة من «إشكاليات» ومفردات غير مألوفة وسلوكيات بشعة، كنا نتمنى أن لا نراها ولا نسمع بها ولا تنشرها بعض «المواقع» لتسجيل سبق غير أخلاقي بل فتنوي وقد يؤدي إلى ما لا يُحمد عقباه في ظلّ اهتزاز المناعة الوطنية و»التوتّر» وانعدام المسؤولية. خاصة أنّ العدو الإسرائيلي يواصل حربه الهمجية والوحشية على لبنان في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية ومناطق أخرى، فيقتل ويدمّر ويهجّر وينذر ويرعب ويهدّد ويهوّل على اللبنانيين ويزيد من أعداد النازحين وإفراغ المدن والقرى والبيوت والحقول والشوارع والساحات والمدارس والجامعات والملاعب من سكانها وروادها وعمالها وتلاميذتها وطلابها ورياضيّيها، في سابقة خطيرة وغير مسبوقة لقتل الحياة وتركها فريسة سهلة للخراب وللحيوانات الشاردة وقطاع الطرق وللرعاع ونزلاء الشوارع ليعيثوا فيها خراباً ونهباً للبيوت وإفراغها من محتوياتها ومن ذاكرة وذكريات ناسها ومصادرة ألعاب أطفالها وتمزيق كُتُبِها ودفاترها وتكسير أقلامها، التي هيأتها لبدء العام الدراسي الذي كان على الأبواب، كما يستمرّ العدو بهدم القرى البيوت وإبادة عائلات بكاملها، وتعمّد حرقه للحقول والبساتين بقذائفه الفوسفورية وكل نبات أو زرع أخضر وتحويل الأرض إلى صحراء جرداء يابسة حتى تقضي على آمال النازحين العائدين من المزارعين في إعادة الروح والحياة الى الأرض وما عليها وأن يتحوّل الجميع إلى عاطلين من العمل لا حول لهم ولا قوة. وليس مستغرباً ولا مفاجئاً أن يرفض هذا العدو المجرم كل الدعوات من بعض الدول لوقف إطلاق النار، لأنه مصرٌّ ومُمعن في عدوانه لتنفيذ مخططه التدميري والتهجيري والتفقيري.
إنّ اللبنانيين والنازحين منهم الذين يعانون ويتألمون ويُقتلون وتدمّر بيوتهم ومؤسساتهم ومحالهم التجارية ومدارسهم ومستشفياتهم ومكتباتهم وتاريخهم وتراثهم وذكرياتهم بآلة الحرب الإسرائيلية على مرأى وسمع العالم وبعضه شريك ومتواطئ وداعم لهذا الكيان وعدوانه وإجرامه، لن يكونوا تحت أي ظرف أو مصير أداة لأحد لتحقيق المكاسب والمغانم، ولا جسر عبور لأي كان ولا لأيّ مشروع للطموح السياسي والسلطوي، ولا إلى إلى مَن يسعى إلى الفتنة أياً كان ومهما كان، لأنهم أساس لبنان وعماده وقوته ووحدته، وهو وطنهم النهائي كما لغيرهم، وهم لم ينزحوا بإرادتهم ولا بحثاً عن فرصة عمل ولا بسبب ظروف اقتصادية واجتماعية ومعيشية خاصة بهم، لأن اللبنانيين شركاء في السراء والضراء، ولم ينزحوا تحت أي ضغط أو هرباً من القهر والظلم والتضييق، نعم نزحوا بسبب الحرب «الإسرائيلية» المتوحشة التي تقتل وتدمّر وتحرق الأخضر واليابس، ومن واجب البعض احتضانهم ومراعاة ظروفهم والتحسّس بآلامهم، وليس التضييق عليهم واستغلالهم وهدر كرامة أي شخص منهم، لأنه عار على أي لبناني التنمّر على أي نازح لأنه لا يطلب شيئاً من أحد، بل يستأجر وينفق على حسابه ومن جيبه .
ليتأكد هذا البعض العفن أنّ النازحين ليسوا مكسر عصا ولا «فشّة خلق» ولن يكونوا «كبش فداء» لأيّ كان. ونقول لمن يهمّهم الأمر «إرفعوا أيديكم عن النازحين وحلّوا عنهم واتركوهم بحالهم حتى يحين موعد عودتهم إلى الديار».