في فلسفة الثورة… العشق والوعي والنضال
} علي حمدالله
مع تطوّر وتعقد المجتمعات والحضارة البشريّة بات من الضروري للثورة لكي تكتمل أن تكون علميّة! وبدون الأسس العلمية للنضال ستقع جموع المناضلين فريسة الصدف العمياء وترمي أنفسها في التهلكة.
ولكي تكون الثورة علمية، ينبغي عليها أساساً إدراك القوانين الموضوعية أو السنن الكونيّة الناظمة لحركة الظواهر، وبالتالي الكشف عن الضرورات التاريخية التي تجسّد التناقض الرئيسي في كل مرحلة، ثمّ تسخير القوانين الموضوعيّة لتحقيق الأهداف الضرورية بتغيير الواقع الموضوعي، وفي هذا الفهم فإنّ الحرية مرتبطة بالمعرفة، وبالمعرفة الموضوعية تحديداً، أي بالقدرة على معرفة الواقع والإحاطة به والنفاذ إلى قوانينه الجوّانية الناظمة لحركته.
الإرادة المحض الخالية من الوعي: قد تنمو لدى فرد أو جماعة معيّنة رغبة وإرادة عالية وجبّارة للنضال وقلب الواقع وتحويله، إلّا أنّ هذه الإرادة إذا لم تكن مستندة إلى وعي الواقع وضروراته، لن تكون إلّا إرادة عمياء تناطح الواقع فتتكسّر على صخرته، هي إرادة الطفل الصادق والجاهل، الذي يعتقد أنّ كل ما يحيطه سيخضع لرغباته إذا ما بكى واستمر بالبكاء.
الوعي المحض الخالي من الإرادة: وفي المقابل قد يمتلك فرداً أو جماعة معيّنة وعياً واسعاً بالواقع وقوانينه، إلّا أنّه وعي لا يغادر دائرة الإدراك إلى دائرة الفعل، فيظل وعياً معزولاً منفصلاً عن الواقع لفقدانه عنصر الإرادة للتغيير، وهو بسبب انعزاله عن واقعه يظل غير قادر علة وعيه، بالتالي هو وعي جاهل، أو هو الجهل وقد تلبس لبوس الوعي.
كلاهما الإرادة المحض والوعي المحض من تمظهرات الانتهازية غير المدركة لموقعها الانتهازي، وكلاهما تجسّدا في ظواهر ثقافية وإعلامية انتشرت في زمن الطوفان.
فأصحاب الإرادة المحض غير الواعية لقواعد وقوانين اللعبة، ظلّوا يصرخون في كل حدب وصوب مطالبين المقاومة بتسريع مسارها أو تكثيف عملياتها، صراخ لا يعدو كونه مطالبة فجّة للمقاومة بأن تفقد وعيها فترمي بنفسها إلى مغبّة الصدف العمياء، والمقاومة إذا فقدت وعيها فقدت سيادتها على المعركة وإيقاعها الذي خنق الصهيوني واستنزفه، الصهيوني الذي حاول مراراً التمرّد على إطار المعركة بالدفع نحو تسريع وتيرتها أو الزجّ بها إلى الفوضى، فالإرادة المحض وإنْ كانت مخلصة في نواياها تجد نفسها في صف العدو، لماذا؟ بسبب جهلها. الإرادة الخالصة النقيّة ليست إلّا إرادة العدو!
وعلى المقلب الآخر، أرخى أصحاب الوعي المحض المنفصل عن الفعل أجسادهم الثقيلة إلى مقاعدهم البعيدة، ومع أو بدون الأرجيلة، ظلّوا ينتقدوا المقاومة لافتقادها الحكمة الجليلة والوعي المطلق، واتهموها بالمغامرة والانتحاريّة والصبيانية، هي مقاومة بطولية صحيح ولكنّها انتحارية، هكذا قالوا.
هؤلاء الواعون من فاقدي الإرادة هم غير واعين بالأساس، هم أكثر الناس جهلاً، لماذا؟ لأنّ الوعي بطبيعته عملي، لا يمكن امتلاكه من على الكرسي، فهو موجود في ميادين النضال ومن أراده انبغى عليه «النزول» والاشتباك والانخراط. إنّ دعاوي أصحاب الوعي المطلق والكامل كشرط لبدء النضال، هم في حقيقة الأمر يدعون تماماً لعدم الذهاب لأي نضال والاكتفاء بالقول والتنظير المقيت في انتظار سكين العدو أن تجهز على ما تبقى من جسد، لماذا؟ ببساطة لأنّ أطروحة امتلاك الوعي الكامل هي محض خيال، ولا يوجد في تجارب البشر ما يمكن تسميته وعياً كاملاً يمكن امتلاكه قبل الانخراط في العمل والنضال، بل إنّ من المستحيل لأيّ وعي أن ينمو ويكتمل من خارج غبار المعركة وضجيج الميدان. إذن أصحاب أطروحة «فلننتظر حتى ينضج الوعي» هم من أصحاب الوعي المنقوص أساساً، الوعي الخالي من الواقع، الوعي الخيالي، الوعي الجاهل.
ولكن، ألا تعني استحالة امتلاك الوعي الكامل بشكل مسبق على الانخراط في المعركة الوجوديّة أنّ الانخراط بها يحمل قدراً غير قليل من المغامرة؟
نعم صحيح، إنّ طبيعة الصراع مع الواقع والنضال لتغييره هي مغامرة دائمة، لا تخلو ولم تخلُ أبداً من الضحايا والأضرار واحتمالات الهزيمة، وهذا يقودنا إلى أحد أسرار اللعبة، نحن ندخل المعركة مع إدراكنا لاستحالة الوعي المطلق بمسارها ومآلاتها التي لن تكون خالية من المفاجآت المريرة والصعبة، ولكن نتيجة المعركة المتجسدة في النصر أو الهزيمة توجد في نهايتها ولا تظهر في مساراتها وسياقها إلى بعد استكمالها لخاتمتها، فالحق ليس موجود هنا بل هناك، والنصر ليس موجود هنا بل هناك في المنطقة التي لم نصلها بعد، في المجهول والمعتم والغيب، ولا يمكن اكتشافه إلّا بخوض المعركة لآخر رمفق، إلّا بأن نرمي العدو بعصا السنوار!
هل هذا يعني أنّ المقاومة محض مغامرة؟
قطعاً لا، فقد عملت المقاومة قبل انخراطها في المعركة الوجودية على تقويض وخفض نسبة المغامرة إلى ما يقترب من الصفر، كيف ذلك؟
أولاً بامتلاك قدر عالٍ جداً من الوعي للعدو والبيئة الاستراتيجية محليّاً وإقليمياً وعالمياً، وبالاستشعار الدقيق للحظة الأنسب والأمثل لاندلاع الطوفان، هذا الوعي والاستشعار هو في جوهره إدراك للقوانين الموضوعية كشرط لامتلاك القدرة لتسخيرها نحو تحقيق الهدف بقلب وتحويل الواقع. ليس سحراً ولا صدفة أن تنخرط جنوب أفريقيا مباشرة في قيادة جبهة الطوفان على ساحة القانون الدولي، وليس سحراً ولا صدفة أن تتبلور «بريكس» وتنمو في زمن الطوفان وخضمه، وهما ليسا إلّا مثالين اثنين ضمن عديد من الأمثلة التي تشير إلى الوعي والدقة في تحيّن لحظة الطوفان عند قيادته.
وثانياً بتصميم فائض خطّة تمثّل القدرة على تسخير الواقع بالارتكاز إلى وعيه والإحاطه به وإدراك جوهره وقوانينه، خطّة مرنة وليست خطيّة، قادرة على الاستجابة والتفاعل مع تقلّب المسارات والمفاجآت، من خلال التحليل المسبق لعدد كبير من السيناريوات ووضع خطط تكتيكية بديلة لكل سيناريو حتى لو كان بعيداً في احتماليته، أي بلغة أخرى التخطيط الذي يأخذ بعين الاعتبار فائضاً من السيناريوات.
هذا التخطيط الفائض ياتي منسجماً مع إطار استراتيجي مركزي لإدارة المعركة وهو حرب الاستنزاف وتسجيل النقاط إلى اللحظة التي يترنّح فيها العدو وهي اللحظة التي تنقلب عندها حرب الاستنزاف إلى الضربة القاضية، أي اللحظة التي ينقلب عندها التراكم الكمّي لتسجيل النقاط إلى التحوّل النوعي نحو الضربة القاضية.
وعي الواقع وقوانينه تجسّد في خطة حرب الاستنزاف، أمّا الخطط التكيتكية وفائضها فهي الاستجابات للتغيرات والمفاجآت في الميدان، وهي تغيّرات لن تنافي قانون المعركة الحالي بل بالعكس ستكون إحدى تمظهراته وتجسداته لا أكثر، أي أنّ مفاجآت العدو الميدانية ستلحق بالمقاومة أضراراً تكتيكية فقط، فيما يبقى قانون المعركة الذي فرضته المقاومة في انسجام مع وعيها للواقع سائداً، قانون الاستنزاف وتسجيل النقاط. نعم كانت ضربة البيجر واللاسلكي واغتيال سماحة السيّد مفاجئة، ولكنها لم تنجح في إخراج المقاومة عن مسارها الاستراتيجي وهو حرب الاستنزاف. تجسّد حرب الاستنزاف إدراكاً عميقاً لجوهر طبيعة العدو، وبالتالي فإنّ مفاجآت العدو ليست مفاجآت من حيث أنّها تنبع عن نفس الجوهر الذي سبق للمقاومة إدراكه وبناء خطتها وفائض خطتها على أساس هذا الإدراك.
وثالثاً بناء فائض في الجاهزيّة، أيّ عدم الاكتفاء ببناء الجاهزيّة الضرورية لنجاح الخطة، بل الذهاب إلى بناء فائض في الجاهزيّة تحسّباً لكلّ ما لم يؤخذ بالحسبان، على أن تكون المرونة وسرعة الاستجابة والخفّة في الانتقال من تكتيك إلى آخر أحد ركائز الجاهزية وفي صلب طبيعتها.
أمضى السنوار حياته كاملة محاولاً إدراك جوهر العدو قبل أن يصمّم خطته الواعية للإجهاز عليه، فهو ليس مقاتلاً شجاعاً فحسب، بل مقاتلاً فيلسوفاً في نفس الوقت.
كما أنّ مقاتلي حزب الله ليسوا من أولي البأس فقط، بل من أولي الألباب أيضاً، وقد سبق لمساحة السيّد الذي بنى خطته لهزيمة الكيان على فهم وتحليل كامل للعدو وتحديد دقيق لمفاصله ونقاط قوّته وضعفه، أنّ وصف المقاومة بالعاشقة العارفة. فالعشق يسبق المعرفة، ذلك أنّ العشق هو الالتحام والاتحاد الكامل مع المعشوق كمقدمة ضرورية لمعرفته.
يقوم العلم الغربي السائد على الفصل الكامل بين الذات والموضوع، بين الباحث ومجال بحثه، ويعتبر أنّ هذا الانفصال شرط موضوعية البحث، دون أن يدرك أنّ هذا الانفصال تحديداً هو الانعدام الكامل للموضوعية التي ينادي بها، هو النقيض التام للموضوعية، بينما تقوم المعرفة الشرقية بما فيها الإسلامية والعربية على الالتحام الكامل بالموضوع والاتحاد معه قلبياً ووجدانياً وعملياتياً كشرط ضروري لمعرفته وإدراكه، فعشق القدس سبق معرفة الطريق لها.