بين حرب 2006 وحرب 2024
ناصر قنديل
تشكل المقارنة العامل الحاسم في الاستنتاج العلمي، خصوصاً عندما يتمّ الاستناد إلى مقارنة عناصر متماثلة في ظروف مختلفة وقراءة تحرّكها وخطها البياني في مرتين مختلفتين أو أكثر، وهذا صحيح في الفيزياء وصحيح في علوم البيولوجيا والطبيعة والفلك، وهو صحيح أيضاً في السياسة والحرب.
الحرب الدائرة خلال عام ونيّف بين المقاومة في لبنان وجيش الاحتلال غير قابلة للمقارنة بالمواجهات التي سبقت انسحاب جيش الاحتلال من جنوب لبنان وكانت المقاومة فيها تخوض حرب عصابات ممتدّة لسنوات تستنزف جيشاً يحتل الأرض لإجباره على الانسحاب، وهي حرب تشبه حروباً كثيرة خاضتها مقاومات مختلفة في العالم بوجه جيوش أقوى من جيش الاحتلال كالجيش الأميركي في فيتنام والجيش السوفياتي في أفغانستان ولاحقاً الجيش الأميركي في أفغانستان؛ بينما الحرب الراهنة فهي مواجهة نظامية تخوضها المقاومة وراء خط الحدود اللبنانيّة لمنع جيش الاحتلال من التقدّم، وهي حرب نادرة في تاريخ حركات المقاومة، والنادر أكثر هو أن تسعى المقاومة كي تنتصر فيها على جيش نظاميّ مدرّب ومجهّز ويملك سيطرة جوية مطلقة وتفوقاً نارياً استثنائياً، لكن بالقياس لمعايير المقارنة العلمية تمثل حرب تموز 2006 نموذجاً مثالياً للمقارنة بين مواجهة تدور بين القوتين نفسيهما على الأرض ذاتها وبشروط متشابهة، بعدما حاول كل من الطرفين في الوقت الفاصل بين عامي 2006 و2023 الاستفادة من التجربة السابقة لتحسين أدائه وزيادة فرصه لربح الحرب.
الواضح أن التطوير الرئيسي لجيش الاحتلال كان في المجال الأمني والاستخباري وتجسّد بالضربات التي صمّمها ونفذها بحق المقاومة وقياداتها وبنيتها وبيئتها بين 17 و27 أيلول 2024، وبنى عليها الاستنتاج بأنها سوف تمثل الضربة القاضية التي تسقط قدرة المقاومة على مواصلة إطلاق الصواريخ من جهة وتصيب قدرتها في المواجهة على الجبهة البرية من جهة موازية، باعتبار أن الأمرين يرتبطان عضوياً ببقاء أو سقوط منظومة القيادة والسيطرة. والواضح أن الآلام والأضرار الكبيرة التي ترتّبت على الضربات الأمنية هزّت بنية المقاومة وأصابت الثقة بها وقدرتها وصحة وعودها عن حجم قوتها واقتدارها، لكن ذلك كان ظرفياً، حيث لم تلبث الوقائع أن أكدت أن المقاومة استعادت حضورها وبقوة واستعادت ثقة بيئتها وما حولها وطنياً وعربياً وعالمياً، بل ربما زاد الإعجاب بها والانبهار من أدائها، لأنها تفعل ما تفعل بعدما تلقت هذه الضربات.
في وجوه الضعف التي أظهرتها حرب تموز 2006 لا تبدو جهود جيش الاحتلال قد أثمرت عن إغلاق الثغرات التي أظهرتها حرب تموز 2006، حيث ظهرت الجبهة الداخلية هشّة، ولجأ مستوطنو الشمال إلى التهجير مع بدء الحرب، بدلاً من الصمود في مستوطناتهم قرب الأماكن المحصّنة كما تقول الخطة التي وضعتها الجبهة الداخلية، كما ظهرت القبة الحديدية بكفاءة محدودة في تأمين الحماية الموعودة بنسبة 90% من الكفاءة، وبقيت كفاءتها في صدّ صواريخ المقاومة وطائراتها المسيّرة أقلّ من نصف الوعود، وتحوّل ذلك الى فعل قاتل مع حجم التطوّر الذي أظهره سلاح الصواريخ والطائرات المسيّرة لدى المقاومة، بينما ظهرت قوات البر بكفاءة أقل على مواجهة مقاتلي المقاومة الأكثر عدداً والأعلى كفاءة والأشدّ تجهيزاً من حرب تموز 2006، بحيث فشلت فرق النخبة بإحداث خرق يُذكر على جهة الحدود خلال أكثر من شهر، بينما وصلت في حرب تموز الى داخل بنت جبيل ووادي الحجير، ورغم ما لحق بها هناك يومها استطاعت التقدّم الذي تعجز عنه هذه المرة.
بالنسبة للمقاومة تبدو التطويرات التي أدخلتها على بنيتها واستعداداتها نوعيّة وشديدة الفعالية، ولم تنجح الضربات الأمنية القاسية التي تلقتها المقاومة في تعطيل مفاعيل هذا التطوير، فقد أظهر سلاح الصواريخ القصيرة والمتوسطة والبعيدة المدى شديدة الدقة، كفاءة تخطيطيّة وتنفيذيّة وحقق نجاحات باهرة خلقت توازناً نارياً في المدى والعمق وقوة التدمير والتهجير، ومثل ذلك كان حال سلاح الطائرات المسيّرة الذي تحوّل إلى لغز الحرب ومصدر صداع قيادة الكيان، بعدما وصلت طائرة مسيّرة إلى غرفة نوم رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو، ووصلت أخرى إلى غرفة الطعام في قاعدة بنيامينا وقتلت وجرحت قرابة المئة من ضباط وجنود لواء جولاني، وبالتوازي ظهر إعداد المقاومة لآلاف مقاتلي البر وتسليحهم وتجهيزهم، وإعداد الأنفاق اللازمة لهم للمناورة والقتال والإمداد، وبرزت مهاراتهم وتدريباتهم في الميدان، كجيش شديد الكفاءة، ما تسبّب بتعطيل حضور فرق النخبة في جيش الاحتلال ومنعها من تحقيق أي اختراق برّي يُذكر.
في معادلات الردع الناري التي لم تكن موجودة في حرب تموز 2006، وتعطّل بعضها في هذه الحرب بسبب الارتباك الناجم عن الضربات الأمنيّة من جهة، وتمهل المقاومة بتفعيل بعضها الآخر، تحسباً لتوسيع الاحتلال نيرانه نحو استهداف العاصمة في ظل انقسام داخلي حول فتح جبهة الإسناد، ومنعاً لتحميل المقاومة مسؤوليّة أي استهداف يطال غير بيئتها، لكن ميزان الردع المتغيّر بقي فعالاً، ومع تقدّم أيام الحرب صار ظاهراً أكثر، حيث بقيت معادلة تل أبيب مقابل بيروت، والمطار مقابل المطار والمرفأ مقابل المرفأ والكهرباء مقابل الكهرباء، حاضرة بقوة وزادت قوتها مع الاستهدافات التي شهدتها الأيام الأخيرة من الحرب.
شكّل الطابع الوجوديّ للحرب بالنسبة لكيان الاحتلال، على خلفية ما جرى مع طوفان الأقصى، وانتقال قيادة الكيان الى ائتلاف حكومي يتمسك ببرنامج حرب ومشروع توسّع واستيطان، حافزاً يبرر وسبباً يفسّر تحمل حرب طويلة وخسائر أكثر، بينما شكل ذهاب المقاومة إلى حرب لإسناد غزة سبباً لإضعاف الالتفاف حول حربها التي فقدت طابعها الدفاعي، لكن مقابل ذلك ترتب على مجيء الاحتلال الى الحرب بعد سنة من حرب مفتوحة صعبة في غزة، سبباً لاستنزاف قدرة قواته الآتية الى الحرب على جبهة لبنان، كما شكل تموضع المقاومة مع بدء العدوان الكبير على لبنان تحت شعار وقف إطلاق النار وتطبيق القرار 1701، سبباً لاستعادة الجبهة الداخلية للمقاومة تماسكها، بينما كانت قيادة الكيان قد رفعت من سقوفها نحو طلبات تتجاوز القرار 1701 نحو ترتيبات أمنيّة مستوحاة من اتفاق 17 أيار الذي أسقطه لبنان بفضل المقاومة قبل 40 سنة، فخسر الكيان ما كان قد حاز عليه من تأييد خارجيّ عندما كانت حربه لوقف جبهة إسناد غزة من لبنان تحت عنوان وقف النار على جبهة لبنان دون شروط.
بعد 40 يوماً على بدء الحرب الكبرى بين المقاومة والاحتلال، يمكن القول إن الأيام العشرة الأولى كانت لصالح الاحتلال مع الضربات القاتلة بين 17 و27 أيلول، وإن شهر تشرين الأول وما تلاه كان للمقاومة بالكامل، وظهر معيار لقياس النصر والهزيمة أبعد من مجرد التوازن في النار وما يثيره من قلق على ضفتي الحرب، حيث جبهة المقاومة لا تسأل عن حجم نيران الاحتلال بل عن حجم نيرانها، وقد ظهر مقنعاً وأحياناً بلغ حد الإبهار، بينما الاحتلال لا يحسب له حجم نيرانه المتوقع أصلاً بل قدرته على منع نيران المقاومة حيث يفشل، بحيث إن الاستمرار على هذا المنوال كافٍ لتنامي معادلة الفشل بالنسبة للاحتلال والفوز بالنسبة للمقاومة؛ أما توازن جبهة البر فإن مجرد تحقيقه يكفي كي يُحسب لصالح المقاومة، التي تكون بالتوازن قد نجحت في منع قوات الاحتلال الضخمة والمحترفة من تحقيق الاختراق الذي صار شرطاً لإحراز تقدّم يتيح فتح باب التفاوض لوقف الصواريخ وعودة مهجّري شمال فلسطين المحتلة، وكلما تكرّرت المحاولات الفاشلة وزادت معها خسائر جيش الاحتلال، استنفدت الحرب فرص الاستمرار.
قياس النصر والهزيمة يتم بفحص منسوب الثقة في الجبهة الداخلية لكل من المقاومة والاحتلال، وما هو واضح وبائن أن ثقة الجبهة الداخلية للمقاومة اهتزّت في الأيام العشرة القاسية، لكنها لم تلبث أن تمّت استعادتها بزخم تصاعدي، حتى عاد الحديث في بيئة المقاومة عن الثقة بتحقيق النصر بقوة وثقة، بينما يتصاعد السؤال تدريجياً في الجبهة الداخلية للاحتلال حول جدوى الاستمرار في الحرب طالما أن التصعيد الناريّ لا يجدي بوقف ما يقابله من تصعيد ناري مؤلم، وطالما أن التقدّم البرّي يبدو كل يوم أصعب من الذي قبله، وتبدو المقاومة تنجح في زراعة الأمل في جبهتها بأنها ذاهبة نحو النصر، وتزرع اليأس في الجبهة الداخلية للاحتلال من جدوى استمرار الحرب.