مقالات وآراء

المثقفون النازحون غائبون… و»المحللون يملأون الفراغ»

 

‬ علي بدر الدين

 

منذ ولوجنا السجن الانفرادي الواسع في رحاب النزوح القسري من مدننا وقرانا وبيوتنا الذي فرضته آلة الحرب «الإسرائيلية» على لبنان، التي ترتكب المجازر وتُبيد عائلات وتدمِّر قرى لمحوها عن الخريطة أو أحياء بكاملها وتهجّر شعباً «بأمّه وأبيه»، ونحن نحاول، ألاّ نخرُج من ذواتنا وعاداتنا وسلوكياتنا ومن أفكارنا، حتى لا نضيع في متاهات غير محسوبة، أو نحيد عن قِيَمِنا التي واكبتنا ورافقتنا منذ تفتّحت عيوننا على هذه الحياة بكل تناقضاتها، لأننا لا نريد أن يُصيبَنا كما أصاب الغراب الذي حاول تقليد الحجل فنسيَ مشيته ولم ينجح في التقليد.
غير أنّ إطالة مدّة النزوح القابلة إلى التمدّد زمانياً ومكانياً وعذاباً وقهراً وذوباناً في محطة الرحال المؤقتة (مبدئياً)، وكنا اعتقدنا (أخطأنا) بأنّ غربتنا لن تطول، ولكن الرياح جرت عكس ما نشتهي، بتنا نخشى على كثيرٍ من النازحين ونحن منهم، من الضياع بعد أن تُركوا لقدَرهم وللمجهول من دون راعٍ أو موجّه أو مُرشد أو متعلّم أو مثقف أو مسؤول! تحديداً الذين دخلوا «جهنّم» ما يسمّى مراكز الإيواء أو»الإقامات» الجماعية.
أكثر ما «لفت النظر» في محنة النزوح غير المسبوقة هو غياب المتعلّمين والمثقفين والمحاضرين على أنواعهم وتعدّد أسمائهم و»فخامة» ألقابهم ألتي يتمسكون بها ولا يقبلون عنها بديلاً، ولا يمكن أن يتواضعوا أو يتخلّوا عن «مقامهم» العلمي الرفيع ولا عن جلسات المقاهي، ولا عن النقاشات التي «أكل عليها الدهر وشرب»، ويدلون بآرائهم بتحفّظ وربما بأصوات خافتة وهامسة لأن «للحيطان آذان»، وكأنهم ليسوا من لبنان ولا من «جمهور» النازحين ولا صلة لهم بهم.
صحيح أنهم يقيمون في فنادق وشاليهات وبيوت مفروشة حفاظاً على «البرستيج»، ولكن هذا لا يلغي أنهم من هؤلاء النازحين ومثلهم تماماً، ينتظرون الفرج والعودة إلى بيوتهم وأعمالهم، ولكن «لا حسّ ولا خبر»، والأنكى من ذلك أنهم بغيابهم عن المسرح أفسحوا في المجال لـ «المحللين» السياسيين والعسكريين والاستراتجيين والمتخصصين بشؤون الدول القريبة والبعيدة، وبأنّ معظمهم مدراء لمراكز حقوقية وقانونية وأبحاث ودراسات، ما أنتج «ثقافة» تعتمد على الاحتمالات والتوقعات على قاعدة «إذا مش صبي بنت» الى آخر المعزوفة المعروفة، (أعتقد، ربما، يمكن… هيك بشوف، فلننتظر… إذا لكن…) وساهموا باستحداث مفاهيم ومفردات ومصطلحات جديدة من شأنها خربطة العقول والقناعات بالتواطؤ مع أقنية تلفزيونية محلية وخارجية تستضيف وتفتح الشاشات و»الهواء» لكثير من هؤلاء مع «احترامنا» لهم، لتعبئة الفراغ وربما البحث عن «التوفير».
ما حفّزني على هذا الكلام الذي قد يرى فيه البعض أنه «لا يودّي ولا يجيب»، ونحن في قطار الانتظار الطويل لوقف إطلاق النار والحرب «الإسرائيلية» على لبنان، والعودة إلى الديار التي باتت حلماً يأمل النازحون تحقيقه، وأن لا خيار غيره بعد أن تأجّلت الأحلام حتى إشعار آخر… لا سيما أنّ معظمنا أصبح عاطلاً من العمل لا «شغلة ولا مشغلة»، والهوايات مؤجلة لأنّ «الضرورات تبيح المحظورات»، وهناك أولويات في الحياة أنّى حطّ بنا الرحال وفي أيّ ظرف، وكلّ ما نقدر عليه او فعله في «حبسِنا» ونزوحنا وغربتنا، هو الجلوس «المريح» مقابل التلفزيون الذي أصبح «صديقنا» وجليسنا «الأنيس» بدلاً من «خير جليس في الأنام كتاب» لأنه غير متوفر لقلّة في المال الذي استنزفه النزوح والذي يجب أن «يُستثمَر» في مكانه الصحيح في هذه الظروف الصعبة والقاسية جداً.
قرأت أنّ محاضرة مشتركة بين الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو» والفيلسوف والمفكر الأميركي «نعوم تشومسكي»، حيث رفضا فيها (معاً) أن يتمّ تقديمهما بصفتهما مفكرين وفيلسوفين كبيرين.
اكتفى ميشيل فوكو بصفة الباحث الثقافي، واختار نعوم تشومسكي صفة الباحث اللغوي.
في الغرب تجد التواضع العلمي والشغف الدؤوب للسعي وراء المعرفة. أما في مجتمعاتنا يظهر «الباحث» غالباً كرمز للهيمنة والشهرة والجاه أكثر مما هوللدراسة والبحث.
ففوكو وتشومسكي، رغم مكانتهما الفكرية، اختارا أن يُقدَّما بصفات تعكس واقع عملهما اليومي بعيداً عن الهالات، كأنهما يرفضان عباءة «العظمة» المفروضة، وهذا ما يظهر الفارق بين ثقافة المعرفة التي تتغذى على النقد الذاتي والتجرّد، وثقافة تحاول تعويض نقصها بالاستعراض المُفرِط.
في بلداننا، ينتقل المرء من صحافي متواضع ليصبح بسرعة الصاروخ محللاً وعالماً كبيراً»، فقط من خلال تبنّي بعض الشعارات وإثارة بعض الجدل والصراخ وافتعال «مشكل» يعني «خالف تُعرَف»،
في حين ينشغل أمثال فوكو وتشومسكي بتحليل الفكر البشري وتعقيداته؛ هذا يعكس غياب تقليد حقيقي للفكر النقدي لدينا، حيث يكاد يكون صعباً أن نجد من يهتمّ بالمسيرة الثقافية أكثر من الألقاب.
في بلداننا المتخلفة، شخص يخرج من «الابتدائية»، أو حتى بدون شهادة دراسية عليا أو سفلى يحاضر بأمة من الناس بصفته عالِماً ومحللاً كبيراً وأنه يعرف ما في باطن الأرض وظاهرها، وإذا لم تُناده بهذه الصفة التي «تليق» به، يغضب ويقيم الدنيا ولا يعقدها، و»بقلّك» و»لو الدنيا مقامات»٠»من كان على رأسه بطحة يحسّس بيها» (مثل مصري)… و (رحم الله إمرئ عرف حدّه ووقف عنده).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى