هل يبقى ما بعد قمة الرياض كما قبلها؟
} د. حسن أحمد حسن*
من حق الكثيرين الذين تابعوا فعاليات القمة العربية الإسلامية الطارئة أو الاستثنائية التي استضافتها المملكة العربية السعودية يوم الاثنين الماضي 11/11/2024م. أن يعبّروا عن وجهات نظرهم، كلٌّ في ما رآه وخلص إليه من قراءة وتحليل ورؤى وتصوّرات. ومن الطبيعي أن تتباين القراءات، وتتعدد المقاربات. فالقمة عقدت في ظرف أقلّ ما يُقال عنه استثنائي وضاغط على الجميع، والحرب العدوانية التي يشنّها الكيان الإسرائيلي على الجميع مفتوحة المدى وبلا سقوف يمكن التنبّؤ بمدى ارتفاعاتها، وكذلك ما يتعلق باشتداد ألسنة اللهب المرافقة وإمكانية توسعها وخروجها عن السيطرة وأخذ المنطقة إلى المجهول، في الوقت الذي تؤكد فيه أطراف محور المقاومة أنّها لا تريد صبّ المزيد من الزيت على النار، ولا تعمل لتوسيع دائرة الحرب، إلا أنها قادرة على خوضها وتحمّل تداعياتها إذا فرضت عليها، وأنّ لدى المقاومة الكثير مما يؤلم أصحاب الرؤوس الحامية، لكن لكلّ أجل كتاب.
هذا الواقع المتأزم والمتداخل دفع بعض المتابعين للتعويل على ما يمكن أن تخرج به قمة الرياض كمحطة يمكن أن تخفف من حالة التشوش في الرؤية المحكومة بتوحش إسرائيلي غير مسبوق مقابل استبسال وكفاءة قتالية لدى المقاومين الذين يذلُّون جنرالات العدو وضباطه وجنوده على امتداد الحدود اللبنانية الفلسطينية بكلّ ما تعنيه كلمة الذلّ، وإذا كان من حق أنصار نظرية المؤامرة الحديث عن عقم جدوى انعقاد القمة لأنّ ما تمّ تخطيطه للمنطقة يتمّ تنفيذه وسيُستكمل رغم أنوف الجميع. وهذا ما يتمّ تسويقه على ألسنة الكثيرين ممن امتهنوا نشر الإحباط واليأس والقنوط وعقلانية القبول بما يسمّونه زوراً وبهتاناً «واقعية سياسية وميدانية». وبكلام آخر إذا كان من حق أولئك تسويق سرديّتهم وفق ما يخدم مصالح مشغليهم، فمن حق مَن يقف على الضفة الأخرى ويتبنى نهج المقاومة وثقافتها أن يقول بملء فمه: ونحن نحتكم إلى الواقعية الميدانية التي تؤكد العجز المتراكم والمركب الذي يحكم أداء /65/ ألف جندي إسرائيلي موزعين على خمس فرق عسكرية وعدد من الألوية الداعمة، وبدلاً من التكرار الببغائي لمقولة السفيرة الأميركية: «مرحلة ما بعد حزب الله» فإننا على يقين بأن الجميع سيضطر للتعامل مع مقولة: «وماذا بعد انتصار حزب الله؟» أو على الأقلّ: وماذا بعد اضطرار تل أبيب لإعلان الفشل في تحقيق الأهداف مرفوعة السقوف التي تمّ التبجّح بها، وها هي السقوف بدأت مسيرة الانخفاض وإنْ كان بشكل تدريجي وغير معلن، وما بين الموقفين المتناقضين مما يجري يمكن النظر إلى القمة العربية الإسلامية في الرياض بعقل بارد بعيد عن الأحكام المسبقة التي غالباً ما تكون جاهزة، وبالتالي تفتقر إلى التقييم الموضوعي المستند إلى الواقع والمنطلق منه، أيّ أنه ليس من الصواب النظر إلى الكأس على أنه فارغ تماماً، بل قد يكون يحتوي على بعض ماء، وهذا بحدّ ذاته أمر إيجابي ويمكن التفكير بجدواه، وإنْ كانت كمية الماء أقلّ من المطلوب أو المأمول، فاجتماع زعماء أكثر من خمسين دولة بحدّ ذاته أمر مشجع، وتوقيت انعقاد القمة بعد الانتخابات الأميركية يمكن أن يوصل رسالة بمضمون أفضل مما كان عليه الأمر قبل أشهر، لكن الفقرات التي تمّ تناقلها عبر وسائل الإعلام عما تضمّنه البيان الختامي للقمة لم تقدّم ما يساعد على تبلور معطيات جديدة تصلح للبناء عليها. وهنا يمكن الإشارة إلى بعض النقاط والعناوين الخاصة بالقمة، ومنها:
*سقف الخطاب والكلمات التي ألقيت في اجتماع القمة راوح في المكان، فغالبية ما عرض لم يتجاوز الإطار العام المعهود، والذي لا يرقى إلى مستوى الأخطار والتهديدات التي تواجهها المنطقة، والطروحات التي قدّمت، وإنْ بدت صياغة كلماتها مرتفعة قليلاً عن سابقاتها، لكنها في الحقيقة بقيت في الإطار النظري الساعي لتبرير الضعف المستشري والمتفاقم، وهذا غير قابل للصرف في سوق التوحش الإسرائيلي المدعوم أميركياً.
*وحدها كلمة السيد الرئيس بشار الأسد أتت لتعبّر عن قناعة وإرادة من يرفضون الذلة والتبعية، ويتمسكون بالحقوق والكرامة مؤكدين دفاعهم المشروع عنها مهما بلغت التضحيات، وجدير بالذكر هنا أنها الكلمة الوحيدة التي أشادت بالمقاومة وأدائها الجدير بالاحترام والإجلال والتقدير. وهنا يمكن الإشارة سريعاً إلى بعض الأفكار الأكثر تأثيراً في أعماق المتابعين، ومنها:
ـ تكرار الشجب والإدانة والاستنكار لا يغيّر الواقع، فمنذ عام غصَّ البيان الختامي للقمة السابقة بعبارات الغضب والاستنكار، والنتيجة اليوم عشرات آلاف الشهداء وأضعافهم من الجرحى، فضلاً عن التدمير الوحشيّ لكلّ مظاهر الحياة في غزة ومحاولة استنساخ التجربة وتطبيقها في لبنان.
ـ التوجهات السابقة وإنْ لم تكن خاطئة، إلا أنها تفتقد إلى الأدوات اللازمة لتظهير النجاح، والمطلوب تغيير الأدوات لتلافي تكرار العجز عن تغيير الواقع، ومن المهمّ عند التفكير بتغيير الأدوات أخذ طبيعة الكيان النازي الإسرائيلي على حقيقته التي تقول: هو ليس دولة بالمعنى القانوني، بل كيان استعماري خارج عن القانون، والمستوطنون في هذا الكيان ليسوا شعباً بالمعنى الحضاري، وإنما قطعان من المستوطنين أقرب إلى الهمجية منهم إلى الإنسانية.
ـ كما أنّ تكرار الشجب وبيانات الاستنكار لن يغيّر الواقع، ولن يخفف من النزعة العدوانية الإقصائية الإجرامية للكيان الصهيوني، فكذلك التعويل على مطالبة المجتمع الدولي بإنصاف أصحاب الحق لن يُغني ولن يُسمن من جوع، فمن يحيّد دول المنطقة عن الفاعليّة هو نفسه من يشلُّ المجتمع الدولي، ويصادر إرادته وقراره في كلّ ما تشهده المنطقة من أحداث وتداعيات.
ـ ما لم يستطع العرب والمسلمون تغيير الوضع الكارثيّ القائم فإنّهم يصبحون شركاء غير مباشرين بكل ما يرتكب من إجرام ومجازر. فالكيان بمسؤوليه ومستوطنيه يعملون بعقل إيديولوجي مريض بوهم التفوّق ومهووس بسفك الدماء. وهنا جوهر المشكلة التي يجب التعامل معها على حقيقتها، وهذا التحديد للمشكلة يدفع تلقائياً لتحديد الوسيلة الأنجع، وهذا أساس النجاح.
*الغطرسة الإسرائيلية وجنون فائض القوة سرعان ما بلورته تل أبيب كردّ على اجتماع القمة، فسارع سموتريتش للتبجح والإعلان أنه أصدر التعليمات لبسط السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية في العام المقبل معرباً عن أمله في أن يدعم الرئيس الأميركي المنتخب هذا التوجه.
*في المقابل كانت حكومة نتنياهو على موعد مع تصعيد غير مسبوق بأداء المقاومة التي أمطرت الداخل الاستيطاني بوابل من الصواريخ والمُسيّرات الانقضاضية، وأشعلت حيفا التي خصصها المقاومون بمئة صاروخ وفق اعتراف الإعلام الإسرائيلي. وهذا يؤكد كذب تخرّصات المسؤولين الإسرائيليين الذين تحدّثوا عن تراجع القدرة الصاروخية لحزب الله إلى حوالي 20%، فتبيّن أنّ الواقع الميداني والقتالي يشير إلى عكس ذلك.
*إذا بقيت الأمور بعد القمة كما كانت عليه قبلها فمن حق المتابع العادي أن يتساءل عن الجدوى من إشغال الرأي العام باجتماعات تشترك فيها أكثر من خمسين دولة، ويبلغ عدد سكانها أكثر من مليار ونصف، وأقل ما يمكن أن يُقال آنذاك: الثروة بلا قوة تحميها تتحوّل من نعمة إلى نقمة، ومن ينتظر مساعدة الآخرين عليه أن يكون قوياً بما فيه الكفاية.
*هنا أيضاً يصبح السؤال مشروعاً: هل من مصلحة إدارة ترامب الآتية أو أي إدارة أخرى أن تستقطب هذا العدد من الدول بلغة أخرى مغايرة للغة الالتزام بأمن كيان وظيفي ثبت أنه عاجز عن حماية المصالح الأميركية في المنطقة، لا بل عاجز عن حماية استمرارية وجوده إلا بمشاركة أميركية وأطلسية وقبول إقليمي بالخضوع والاستكانة؟
من كلّ ما تقدّم يتضح لمن يريد أن يرى الحقيقة أن المعادل الموضوعي المكافئ والوحيد الممكن يبقى محصوراً في المقاومة، فعلى قبضات رجالها تعقد الآمال وبتضحيات شعبها وعشاقها تتبدّل الصورة حتماً، وإنْ طالت المدة وارتفعت التكلفة، لكنها تبقى أقل بكثير من تكلفة التبعية وا
لإذعان.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية.