فلسفة الثورة: إجابة الطوفان على أحجيات الزمان
علي حمدالله
ظلّت بعض الأحجيات قيد الاجترار طويلاً بين النخب الفكريّة العربيّة، وأبرزها: أيّهما أسبق التحوّل الاجتماعي الاقتصادي أم السيادة والاستقلال السياسي؟
أصحاب الطرح الأوّل حاججوا أنّه لا يمكن أبداً انتزاع السيادة والاستقلال السياسيين من الإمبريالية والاستعمار بشكليه القديم والجديد إلّا بعد إنجاز التحوّل الاجتماعي والاقتصادي الداخلي لبناء مجتمع واقتصاد قادر على تحقيق السيادة والاستقلال السياسيين. فيما حاجج أصحاب الطرح الثاني باستحالة إنجاز التحوّلات الاقتصادية والاجتماعيّة في ظلّ أنظمة سياسية تابعة ومرتهنة للإمبريالية والاستعمار، باعتبار أنّ السلطة السياسية التابعة ستعمل على إجهاض وتفكيك كلّ محاولات التحوّل والنهضة الداخليين، وباعتبار استحالة تحقيق تحوّلات حقيقية قبل انتزاع السلطة السياسية وإخراجها من رحم التبعية وتوظيف أدوات وأجهزة الدولة لإنجاز التحوّلات.
لم تبرح هذه الأحجيات في كثير من الأحيان صفحات الكتب وصالات المؤتمرات، أيّ ظلّت أسيرة دائرة النقاش لا الفعل، إلّا أنّ تجارب التاريخ العملية قدّمت إجابات نظريّة حاسمة، وهي إجابات جدلية علمية لم تنظر للواقع نظرة أحاديّة الجانب، ولم تعالج العلاقة بين البنية السياسية من جهة والتشكيلة الاقتصادية الاجتماعية من الجهة الثانية على مبدأ (إمّا، أو) أيّ على مبدأ الفصل النظري بين جوانب من المستحيل الفصل بينها عملياً، هذا الفصل النظري التعسّفي بين الطرحين أعلاه، أنتج برامج وحركات سياسيّة عرجاء، تسير على رجل السياسة دون الاقتصاد والمجتمع أو العكس، ما جعلها تنتهي دائماً إلى الانكفاء والانعزال.
ماذا يقول لنا التاريخ في ذلك؟ يقدّم التاريخ إجابة حاسمة: لا يمكن إنجاز التحوّل الاقتصادي – الاجتماعي قبل انتزاع السلطة السياسية وإخراجها من رحم التبعية والارتهان والعمالة، ولكن وعلى طريق انتزاع السلطة السياسية ينبغي تصميم وتنفيذ برنامج تحوّل اقتصادي واجتماعي قادر على حمل المشروع السياسي، على أن يتمّ إنجاز واستكمال التحوّلات في التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية بعد انتزاع السلطة السياسية ومن خلالها.
بالإضافة لهذه الأحجية، وعلى أساسها أو قريباً منها نمت أحجية ثانية، أعد ترتيب الكلمات التالية بحسب الأولوية: الطبقة، الشعب، الأمّة، الأممية.
وفي كثير من الأحيان تمّت معالجة هذه الأحجية أيضاً على منطق (إمّا، أو)، أي دون القدرة على فهم الترابط العضوي الموضوعي بين هذه المفاهيم وبالتالي العجز عن بناء برنامج سياسي قادر على إدراك الواقع الموضوعي نحو تحويله.
فمثلاً غرقت بعض التيّارات الشيوعية العربية في مفهوم الطبقة، مغفلة مفهوم الشعب ومفهوم الأمّة، ووجدت اتصالاً عابراً للحدود بين مفهوم الطبقة ومفهوم الأممية دون المرور بالشعب والأمّة، وراحت تنادي بوحدة نضال العمّال في كلّ مكان، ووصل فيها الأمر أن نادت بوحدة نضال العمّال العرب واليهود المستوطنين معاً! وكلّ ذلك دون مراعاة خصوصية التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية لكل طبقة في كل شعب وقبل تحرير الأرض العربية وقبل انتزاع الاستقلال السياسي العربي، والأهمّ والأكثر سخرية قبل حتى أن تطوّر طبقة عاملة عربيّة!
أمّا أصحاب شعار الشعب أولاً، فأغفلوا مفهوم الطبقة بما يعنيه من عدالة اجتماعيّة وتنمية حقيقية وبما تمثّله من رافع حقيقي لأيّ صيرورة نضالية تحرّرية، وأغفلوا موضوع الأمّة بما يعنيه من امتداد حضاري في التاريخ والجغرافيا وشرط موضوعي لتعزيز الاقتصاد المحلّي إطار التنمية القومية أو الإقليمية الجماعية، وبالتالي خسروا المكوّن الداخلي والمكوّن الخارجي اللذان يشكلان الأساس لتحقيق شعارهم الرئيسي وهو الاستقلال القطري/ المحلي السياسي، وقد أثبت التاريخ أنّ برنامج الاستقلال المحلّي القطري السياسي في مواجهة عدو منظّم موّحد ليس على مستوى محلّي أو قطري أو إقليمي فقط، بل على مستوى الكوكب، وهو الإمبريالية والصهيونية هو شعار واهم ولن يؤدي إلّا لمزيد من التبعية والتخلّف.
وأصحاب شعار الأمة العربيّة والذين أغفلوا المكوّنات الأخرى مثل الطبقة والشعب، قفزوا هم أيضاً عن المحددات والشروط الموضوعيّة لإنجاز مفهوم الأمة العربية الموّحدة والمستقلّة، أيّ قفزوا عن الأولويات النضالية الملحّة في كلّ قطر على حدة، نحو التغنّي بشعارات الأمة الواسعة، فلم يراعوا خصوصيات كل شعب وكل طبقة، وغرقوا في التعميمات الثقافوية فانتهى بهم الأمر أيضاً إلى الانعزال والتقوقع والتحوّل إلى ظاهرة صوتيّة في أفضل حال.
قدّم التاريخ بسخاء الكثير من الدروس والعبر، إلّا انّ قلّة قليلة فقط هي التي نجحت في التعلّم من مدرسته وتخلّصت من دائرة تكرار الأخطاء على حسابها الخاص، ولمن فشل في تعلّم دروس التاريخ فليتعلم من دروس واقع الطوفان الذي قدّم إجاباته على الأحجيات، ويبدو أنّه من سنن الله كما عرضت في كتبه ومن قوانين التاريخ كما عرضها الفلاسفة في كتبهم، فإنّ تلك الأمم التي لا تتعلّم من كتاب التاريخ سيعلمها التاريخ بقبضته.
بصدد الأحجية الأولى (الاستقلال السياسي أم التحوّل الاجتماعي) يتفق الطوفان مع دروس التاريخ: «لا يمكن إنجاز التحوّل الاقتصادي – الاجتماعي قبل انتزاع السلطة السياسية وإخراجها من رحم التبعية والعمالة، ولكن على طريق انتزاع السلطة السياسية ينبغي تصميم وتنفيذ برنامج تحوّل اقتصادي واجتماعي قادر على حمل المشروع السياسي، على أن يتمّ الشروع في إنجاز واستكمال التحوّلات في التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية بعد انتزاع السلطة السياسية ومن خلالها». ويمكن مقارنة هذه المقولة مع واقع وصيرورة القوى الأكثر فاعلية في زمن الطوفان: المقاومات في غزّة وجنوب لبنان والعراق واليمن، وتجربة الدولة السورية وتجربة جمهورية إيران الإسلامية، وجميعها عملت على بناء مستوى معيّن من التحوّل الاقتصادي الاجتماعي الذي يخدم طريق انتزاع الاستقلال السياسي، هذه المقارنة تحتاج القليل من التأمل والكثير من البحث.
وبصدد الأحجية الثانية؛ يقدّم الطوفان إجابة غير مسبوقة تاريخياً، يلخصها بكلمة واحدة: المحور.
والمحور ليس طبقة ولا شعباً ولا أمّة ولا أممية، ولا ينشغل في فك الأحجيات وإعادة ترتيب الكلمات، كما أنّ مكوّناته متفاوتة بخصوص صيرورتها الاجتماعية الاقتصادية، ولكنّه شكّل التقاء عضوياً بين كلّ هذه المكوّنات المختلفة والمتفاوتة، والتي اشتركت في هدف واحد: هزيمة الصهيونية ودحر الإمبريالية والتخلّص من تركة الاستعمار بما فيها سايكس-بيكو والهويّات الضيّقة، ومن حيث أنّه التقاء لقوى متفاوتة في القدرة ومستوى التطوّر المادي ذهب لاجتراح مبدأه الأصيل، القادر على التعاطي الجدلي الفعّال بين ما هو عام وما هو خاص في مكوّناته: مبدأ وحدة الساحات والجبهات.
ففي ما هو عام تنصهر جميع المكوّنات في معركة واحدة ولتحقيق أهداف موحدة، وفي ما هو خاص يحافظ كل مكوّن على استقلال نسبي في إدارته وتطويره لساحته.
ويبقى السؤال: ما الشكل السياسي والاقصادي والاجتماعي الذي سيتمخّض عنه انتصار المحور؟ إلى أين نحن ذاهبون؟
أمام هذا السؤال الذي قد يبدو ملحاً، يمكن للنخب اجترار كل تاريخ الأخطاء المعروضة أعلاه، فتنشغل في التحليل والتفكيك والتنظير الأعرج الأعزل المتعالي، أو تفعل ما ينبغي عليها فعله؛ الانخراط التام في مشروع وصيرورة الانتصار. فبكل بساطة إذا كان لديك تحفّظ أو اعتراض على الهوية الثقافية أو الاجتماعية أو الاقتصاديّة للمحور أو أيّ من مكوّناته الخاصّة فالسبيل الوحيد أمامك للدفع بهويّتك لترى النور في الأفق الجديد القريب؛ هو الانخراط المادي العملي في صيرورة صناعة النصر، أن تحجز لنفسك الفرديّة أو الجمعيّة مكاناً في المستقبل يشترط عليك أن تشارك في صناعته، هكذا يقول الواقع وهكذا قال التاريخ.