مقالات وآراء

بيوت النبطية وشوارعها وأسواقها المدمَّرة والفارغة تبكي فراق أهلها وتنتظر عودتهم…

 

 سارة طالب السهيل

 

هل أتحدّث عن الحجر الذي سقط أم عن الشجر الذي كان في تلك الحقول الوارفة؟ هل أروي لكم عن ذاك الصندوق الذي كانت الحجّة تخبِّئ فيه رسائلها التي تحمل عبق الماضي الجميل وحكاياتها القديمة وصوَر رفاق المدرسة، هذا الصندوق بات الآن تحت الركام. فمن يحضر لتلك الحجّة ذكرياتها من تحت الأنقاض؟
هل أحدِّثكم عن أول حذاء ارتداه إبن السيدة (س) أو (ص)، ذلك الطفل الذي أنجبته بعد انتظار سنوات طويلة، واحتفظت بحذائه الذي خطا به أولى خطواته وكما يُقال بالمثل الدارج كلّ «شبر بنذر».
ربَّته وكبّرته، حتى هاجر إلى أوروبا، وربما أفريقيا ليرسل لوالدته ثمار تعبه لتبني لها بيتاً على الجبل الأخضر بين أزهار «الغاردينيا» هكذا كانت أحلامها، فأراد أن يحقق لها حلمها.
لكن الطائرات «الإسرائيلية» قصفت بيت الأحلام، واغتالت أزهار «الغاردينيا»، وضاع حذاء الإبن المهاجر، ونزحت أمّ الأحلام حاملة معها قطّتها الصغيرة التي لم يطعها قلبها أن تتركها وحدها، فنزحت وقطتها (أحلام).
هل أحدِّثكم عن الأرواح التي ارتقت إلى السماء شهداء، تاركين خلفهم أرامل وأيتام؟ أو أتحدث عن المطعم الذي كان ينادي على أهل الحي بأسمائهم كلّ صباح «صباح الخير، أحمد»، «يسعد صباحك، مصطفى».
أتذكّر ذاك المطعم جيداً فحين زرت جدتي كان مطعمي المفضّل صباحاً بأطباق الفول والليمون النبطاني الشهي.
هل أروي لكم قصة ذاك الرجل الذي دمَّر بيته القصف، ذاك المنزل الذي رمَّمه قبل شهرين من القصف، والذي دفع عليه كلّ أموال تقاعده بعدما أصبح كبيراً في السن، ويريد أن يستمتع ببيته.
حتى لو لم أحدّثكم أنا، ستحدثكم تلك الشوارع التي شهدت زفّات العرسان والمتخرّجين، وزغاريد الأفراح وطيش شباب الحي بسياراتهم الجديدة،
هذه الشوارع الفارغة الآن تبكي أهلها الذين تفرّقوا كلّ منهم بمكان وتنتظر عودتهم.
هل تريدون أن تسمعوا مني عن البيوت التي بناها أهلها حجراً فوق حجر، بعرقهم وجهدهم ومن المال الحلال. أين هي الآن؟
هل أتحدث عن المكتبات والوثائق والكتب التي ذهبت مع الريح. يا معشر الكتاب والأدباء والمثقفين أعزّيكم باغتيال أبنائكم أمهات الورق وأحفاد الفكر والعقل وألباب الباحثين.
سأخاطبكم بدموع الأمهات ووجع الرجال وصراخ الأطفال.
سأناجي المدارس التي هجرها الأطفال، والحقول التي مات زرعها وأكلتها النيران.
بل سأصمت فالصمت في حضرة الموت إجبار، فكيف يسعفني الكلام، وأنا أرى حولهم كلّ هذا الدمار؟
من هذا المكان في قلب جنوب لبنان، حيث كانت البيوت تتعانق مع الجبال وتحتضن الذكريات، يتجلّى مشهد مأساوي يختصر معاناة أمّة بأسرها. هنا حيث كانت الضحكات تعلو في زوايا المنازل، وحيث كانت الأمهات تروينَ حكايات الجَدّات، باتت الأجواء مشحونة بالحزن والأسى. الدمار الذي حلّ بهذه الأرض لم يكن مجرد تدمير للمعالم، بل كان تدميراً للذكريات، للتراث، وللأحلام التي نسجها الأجداد بعرقهم.
النبطية، تلك المدينة التي كانت تحتضن ذكريات جدَّتي، أصبحت اليوم أنقاضاً بعدما قصف «الإسرائيليون» كلّ معالمها. قصفوا المنزل الذي عاشت فيه جدَّتي، ذلك المنزل الذي كبرت وتربَّت فيه.
إنها مأساة إنسانية بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى. فبيت جدَّتي ذهب مع الذكريات.
أتذكّر النبطية، تلك المدينة التاريخية الواقعة في جنوب لبنان، التي يعود تاريخها إلى العصور القديمة، و‎اُكْتُشِف فؤوس حجرية وأدوات مصنوعة من الحجر الضران أو الصوان في النبطية على عمق سبعة أمتار، وتعود هذه الأدوات إلى فترة تتراوح بين 8 آلاف و15 ألف سنة قبل الميلاد. كانت النبطية تعتبر مركزاً حضارياً مهماً، بالإضافة إلى كونها مركزاً إدارياً وثقافياً بارزاً في الجنوب.
مرّت النبطية بعصور متعددة من الفينيقيين إلى البيزنطيين والرومانيين، وشاهداً على تلك الحقب المغاور والكهوف وأحجار ومدافن وطرق مرصوفة تعود إلى عصر الرومان.
ولا ننسى أنّ للنبطية تاريخاً طويلاً من النضال والمقاومة ضدّ الاحتلالات الأجنبية على مر العصور.
يعود أصل تسمية مدينة النبطية إلى «الأنباط» الذين تركوا إرثاً عريقاً في مملكة البتراء في الأردن.
كانت جدتي تروي لي عن سوق الإثنين حيث كان يُعقَد كلّ يوم إثنين. يعود تاريخه لأكثر من 4 قرون. ويقع وسط مدينة النبطية على بعد حوالي 60 كيلومترا من الحدود الفلسطينية،
كان هذا السوق يعجُّ بالحياة، ألناس يتجمعون لشراء وبيع المنتجات المحلية، والإبتسامات تعلو الوجوه. اليوم، أصبح السوق شاهداً على الدمار الذي حلّ بالمدينة.
وكانت تحدثني أيضاً عن جامع النبطية القديم، وكنيسة السيدة، وعلى بعد عدة كيلومترات، كانت قلعة الشقيف تلوح في الأفق، تقف شامخة تروي حكايات الأبطال والمغامرات. وهي اليوم أيضاً تقف شاهدة على تاريخ المدينة وصمودها، رغم الدمار الذي يحيط بها.
النبطية كمدينة مركزية في جنوب لبنان موجودة منذ العصور الغابرة، وشهدت مسيرة تطوّر لا تتوقَّف عبر عصور الزمن. كانت الحياة تنبض في شوارعها الضيقة، تنسج بألوانها حكايات الأجداد والأحفاد.
لكن اليوم، تقف المدينة شاهدة على الدمار الذي حلَّ بها، وعلى الذكريات التي ذهبت مع الريح. فكلّ حجر سقط، وكلّ جدار تهدَّم، يحمل في طياته قصصاً وحكايات لا تُنسى. أصبحت النبطية مكاناً يشهد على الماضي المجيد. والواقع المؤلم، حيث تتعانق الذكريات مع الدمار في مشهد يختصر معاناة أمة بأسرها…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى