الأمة السورية.. مسار صراع مع التنين ذاته
درس أنطون سعاده تاريخ الأمة السورية جيداً وفهم هذا التاريخ بشكل معمّق، فاستخرج من إشراقاته مكامن القوة، واستخلص من إخفاقاته العبر والدروس. وغاص في كل علم حتى فسّر ماهية الأمّة وأهميتها ووضع قواعد نهضتها وانطلاقها
مرت الأمّة السورية عبر تاريخها الطويل بحقبات كثيرة ومتنوّعة. حقبات بعضها مشرق وساطع ومضيء وبعضها الآخر مظلم، داكن، مدلهمّ. من الحقبات المشرقة نستلهم القوة والروح المعنوية العالية، والإرادة والثبات، والعزيمة الصادقة، ومن الحقبات الداكنة نستلهم الدروس والعبر وروح الصبر والثبات وعدم التراجع عن المواجهة مهما كبُرت التحديات وتعملقت المصاعب والمشقات.
إحدى الحقبات المشرقة في تاريخ سورية خطها سرجون الأكادي في القرن الثالث قبل الميلاد. سرجون الأكادي الذي كان أحد أبرز الملوك في التاريخ القديم، ومؤسس الإمبراطورية الأكاديّة في بلاد الرافدين. سرجون الأكادي الذي قاد العديد من الحملات العسكرية الناجحة ضد المدن السومرية والدول المجاورة، مثل لاغاش وأوروك، معزّزاً سلطته كما أنشأ نظام إدارة مركزياً فعالاً وتمكن من توحيد الإمبراطورية.
حقبة مشرقة أخرى من حقبات التاريخ السوري رسمها حامورابي حوالي القرن الثامن عشر قبل الميلاد. حامورابي، أحد أبرز الملوك في تاريخ بابل القديمة هو الذي تمكّن من توحيد العديد من المدن والدول السومريّة تحت راية بابل، مما جعلها قوة مركزية في منطقة بلاد الرافدين. حامورابي الذي وضع مجموعة من القوانين تتكوّن من حوالي 282 مادة قانونية معروفة باسم “قوانين حامورابي” كان لها تأثير كبير على المجتمعات القديمة.
أما حقبة الاحتلال العثماني فقد كانت إحدى الحقبات المظلمة من تاريخ سورية. هذا الاحتلال الذي بدأ في أوائل القرن السادس عشر واستمرّ حتى نهاية الحرب العالمية الأولى في عام 1918. خلال حوالي الأربعمئة عام من الاحتلال، تمّ تقسيم سورية إلى ولايات يحكمها ولاة ذات صلاحيات شبه مطلقة فعمّ البلاد الظلم والقهر وعلّقت مشانق الثوار والأحرار.
وما كادت حقبة الاحتلال العثماني تنتهي حتى بدأت حقبة الاحتلال، والذي سُمّي بالانتداب، الفرنسي والبريطاني لسورية. من أبرز تداعياته، تقسيم المنطقة بموجب اتفاقية سايكس -بيكو عام 1916 بين فرنسا وبريطانيا، كخطوة أوليّة لتهيئة الظروف لاستعمار المنطقة وفرض السيطرة عليها. ومن ثم صدر وعد بلفور في 2 نوفمبر 1917 من قبل الحكومة البريطانية لليهود بإقامة وطن قوميّ لهم على أرض فلسطين. وكان هذان الحدثان المحوريان نقطة تحول كبيرة في التاريخ السوري أدت الى زرع كيان محتل على أرض فلسطين، فبدأت مرحلة جديدة من الصراع، ما زالت مستمرة.
في خضم هذه الأحداث، وتداعياتها الشديدة الخطورة، كان أنطون سعاده قد استشرف ما يُحضّر لسورية وما يمكن أن يحصل إذا ما نفذت الخطط التي تُحاك من أجل إخضاعها. كان يعلم علم اليقين بأن فقدان الأمة لسيادتها على نفسها هو السبب الأساسي لما قد يصيبها من ويلات ومصائب. درس أنطون سعاده تاريخ الأمة السورية جيداً وفهم هذا التاريخ بشكل معمّق، استخرج منه مكامن القوة، واستخلص منه العبر والدروس. غاص أنطون سعاده في علم الاجتماع وفسّر بوضوح ماهية الأمّة وأهمية الأمة. حدد أنطون سعاده الكثير من المفاهيم والمصطلحات التي كانت غامضة أو غير مفهومة، «فالتعيين هو شرط الوضوح، والوضوح هو الحالة الطبيعيّة للذات المدركة الواعية الفاهمة».
في السادس عشر من تشرين الثاني من عام 1932، أسس أنطون سعاده الحزب السوري القومي الاجتماعي ليكون الفكرة والحركة اللتين تتناولان حياة أمة بأسرها، ووضع على عاتق هذه الحركة مسؤولية إعادة الحيوية الى الأمة وضخ الحياة في شرايينها بعد أن أرهقتها الاحتلالات الأجنبية والتشرذمات الداخلية فكان لا بدّ من العمل على مستويين إثنين، المستوى الداخلي والمستوى الخارجي.
على المستوى الداخلي، اعتبر سعاده بأن «الصعوبات الخارجية تهون متى تغلّبنا على الصعوبات الداخلية وتمركزت إرادة أمتنا في نظامنا، الذي يضمن وحدتها ويمنع عوامل القسمة المتفشية خارج الحزب من التسرّب إلى وحدتنا المتينة التي نضحّي في سبيلها بكل ما تطلبه منا التضحية».
شدد سعاده على أن الوحدة الاجتماعية هي واحدة من أهم عوامل القوة التي قد تعزز مناعة المجتمع في مواجهة الاختراقات، والفتن التي تسعى لتفتيته وإضعافه وتحويله الى زمر متشرذمة متناقضة، متصارعة، متضاربة متناحرة وبأن الفكر المجتمعي والوحدوي والوعي القومي الاجتماعي هو السلاح الأمضى في هذه المواجهة، «فالأمة السورية هي مجتمع واحد»، و»مصلحتها فوق كل مصلحة»، و»كل ما فينا منها وكل ما فينا لها».
خلال مرافعته أمام محكمة الاحتلال الفرنسي قال سعاده بوضوح «إنّ البواعث الإيجابية التي دفعتني إلى إنشاء الحزب، عدا ما قلته في صدد ممارسة حقوق السيادة، هي وضع حدّ لفوضى العقائد القومية في المجتمع السوري وتوحيده في عقيدة كيانه ومصلحته، وصرفه عن التخيّلات العقيمة والأوهام الاتكاليّة إلى التفكير العملي والعمل والنهوض بالذات، وتعويد النشء خصوصاً ممارسة الحقوق والواجبات القوميّة والفضائل التي توحّد المجتمع وترقّيه في نظرياته وأنظمته، وقيادة النشء إلى النظام والتمرّن على استخدام مواهبه في سبيل ترقية أمته وفي سبيل معرفة الواجبات العامة والاضطلاع بالمسؤوليّات».
على مستوى التعامل مع المخاطر الخارجية، حدّد سعاده مفهوم القوة، فمصلحة الحياة لا يحميها في العراك سوى القوّة، القوّة بمظهرها المادي والنفسي (العقلي).
فالقوة بمظهرها الماديّ هي أولاً القوة العسكرية، أكتاف الجبابرة وسواعد الأبطال، هي القوة التي تحمي الوطن وتمنع الغزوات، ترعب العدو وتردعه وتجعله عاجزاً عن أن يفكر في استهداف الأمّة والوطن. وهي ثانياً قوة الإنتاج، والاقتصاد والاكتفاء الذاتي واستغلال عناصر يذخر بها الوطن السوري، من ثروات وموارد طبيعية على مختلف أنواعها، فتكون هذه القوة العامل الذي يعزّز القوة العسكرية ويزيد من إمكانياتها.
أما القوة بمظهرها النفسيّ فإن أهم مصادرها المعرفة على أنواعها والإيمان المطلق بأن سورية للسوريين والسوريون أمّة تامّة، وبأن القضيّة السورية هي قضية قومية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أي قضية أخرى. ومن أهم مصادر القوة النفسيّة الإدراك واليقين بأنّ القضيّة السورية هي قضيّة الأمّة السوريّة والوطن السوريّ وبأن الأمّة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي. ومصدر آخر من مصادر القوة النفسيّة الأيمان بأنّ النهضة السورية القومية الاجتماعية تستمدّ روحها من مواهب الأمة السوريّة وتاريخها الثقافي السياسي القومي.
عمل أنطون سعاده من خلال الحزب السوري القومي الاجتماعي وعقيدته على تعزيز عناصر القوة في الأمة وإبعاد كل الويلات عنها، وتحديداً الخطر الداهم الذي كان يتهدّد فلسطين وسورية كلها من خلال ما يتهدّد فلسطين، فارتقى شهيداً في هذه المعركة الوجودية الكبرى. استُشهد أنطون سعاده نتيجة لمؤامرة تقاطعت فيها مصالح الخارج الطامع ليس فقط في فلسطين إنما في كل شبر من سورية، مع مصالح بعض الداخل الذي شكلت الوحدة الاجتماعية تهديداً وجودياً لمصالحه الضيّقة والآنيّة. استشهد أنطون سعاده وبقي الحزب السوري القومي الاجتماعي يشكل تهديداً وجودياً للعوامل ذاتها فاستهدف الحزب، كما استهدف سعاده، مراراً وتكراراً ولكن الأفكار الكبيرة والعقائد العظيمة لم تكن يوماً ولن تكون يوماً إلا عصيّة على القتل، عصيّة على الموت، عصيّة على كل استهداف.
واليوم، بعد أكثر من تسعة عقود على تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، وأكثر من سبعة عقود على استشهاد المؤسس والزعيم أنطون سعاده، ما زالت الأمة في حالة الصراع مع التنين ذاته. التنين الذي يحتلّ فلسطين ويطمع في توسيع احتلاله ليشمل سورية كلها وقد دخل منذ أكثر من عام مرحلة جديدة من مراحل الصراع، مرحلة ازداد فيها العدو همجية وقتلاً وإجراماً واستهدافاً للأبرياء والأطفال المدنيين، في فلسطين ولبنان، مدعوماً مالياً وعسكرياً ومعلوماتياً واستخبارياً من عدد كبير من دول العالم، وسط حالة من الإغماء والسبات العميق لما يُسمّى مجلس أمن دولي ومجتمع ودولي. وفي هذه المرحلة نفسها، ازداد شعبنا يقيناً بأن المقاومة هي وحدَها السبيل للدفاع عن الحقوق والكرامة والوطن، ازداد شعبنا يقيناً بأن في ساحات الصراع بين الحق والباطل، قد يرتقي الكثير من الشهداء من الأطفال والنساء والشيوخ، من المقاومين والقادة االكبار، ولكن الانتصارات العظيمة في المعارك الوجودية الضخمة لا يمكن أن تتحقق إلا بالتضحيات الكبيرة. وكما رسم سرجون الأكادي وحامورابي وغيرهم حقبة مشرقة من حقبات التاريخ السوري سوف يرسم المقاومون الأبطال والصامدون والصابرون من أبناء أمتنا وشهداء الأمة، كل شهدائها حقبة ساطعة جديدة من تاريخ هذه الأمة، وكما قتلت هذه الأمة أكثر من تنين تهدّدها في الماضي، سوف تقتل حتماً هذا التنين.