عندما تنقشع غيوم التفاوض وتظهر الحقائق
ناصر قنديل
– هناك سرديّة سائدة في عقول الكثيرين وعلى ألسنتهم مفادها أن الاتفاق الذي يجري التفاوض عليه، هو اتفاق ينتهي بإنهاء سلاح حزب الله انطلاقاً من إنهاء دوره في الجنوب، وهو اتفاق هزيمة المقاومة التي سوف تحفظ حزبها من التصفية بقبول شروط إسرائيلية بحجم حريّة التحرّك في لبنان، وإعادة تشكيل الدولة تحت الوصاية الأميركيّة انطلاقاً من رئاسة الجمهورية شخصاً ومشروعاً. والنقاش مع هذه السردية المتجذرة في عقول أصحابها، أصعب من الانتظار لبضعة أيام حتى تنجلي غيوم التفاوض ويظهر الأبيض من الأسود فيها، والدخول في مراهنة مع هؤلاء على سقوط سرديتهم أقل كلفة من الدخول في النقاش معهم.
– ثمة احتمال من اثنين لا ثالث لهما، أن تنجح المفاوضات بالتوصل الى اتفاق أو أن تفشل. والفشل سيحدث عندما لا تكون قيادة كيان الاحتلال قد استوعبت أنها خسرت الحرب، وأن جيشها عاجز عن تحقيق إنجازات في الميدان، وأن المقاومة تنتقل إلى مرحلة جديدة في استخدام نيران صواريخها وطائراتها المسيّرة، يصبح معها عمق الكيان تحت النار، وفقاً لمعادلة بعض عناوينها هو ما أفصح عنه الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم بتكريس المعادلة التي سبق وأسّس لها السيد حسن نصرالله، تل أبيب مقابل بيروت. وعندما تكون قيادة الكيان تعيش في أوهام التفوّق منعزلة عن الواقع سوف تتمسّك بشروط يجري سردها كعناوين للاتفاق، انسحاب حزب الله من جنوب الليطانيّ قبل انسحاب جيش الاحتلال إلى ما وراء خط الحدود الدوليّة، وبقاء السيطرة الجويّة للاحتلال على أجواء لبنان تحت شعار المراقبة والتحقق من عدم إعادة بناء قوة حزب الله، ويليها حق التدخل العسكري المباشر بصفته دفاعاً عن النفس في حال الشك بوجود علامات على إعادة البناء هذه، وبقاء قيادة الكيان في هذا الوهم سوف يعني أن لا اتفاق. وقد فهم المبعوث الأميركي أموس هوكشتاين هذا بوضوح، بل إنه سمع أن تحليق الطيران الاستطلاعي للاحتلال في أجواء لبنان كل مرة سوف يقابله تحليق الطيران الاستطلاعي للمقاومة في أجواء فلسطين المحتلة.
– فشل المسار التفاوضيّ سوف يعني أن الكلمة عادت للميدان، وأن اختبارات قوة جديدة لا بدّ من خوضها، ووفقاً لمعايير الحروب وقوانينها عبر التاريخ، فإن أداء الجيوش الثقيلة وصاحبة القدرات العسكرية النظامية يتراجع مع الوقت، وأن هذه الجيوش تفعل ما بوسعها في الأيام الأولى للحرب التي تخوضها، وأن المقاومات تعمل بعكس هذا القانون، فهي تسعى لتفادي تلقي ضربة مميتة في الأيام الأولى لاندفاعة الجيوش النظامية، وتعمل جهدها للحفاظ على بنيتها سليمة ما أمكن وتبدأ بعدها بخوض حرب استنزاف بطيئة ومتدرّجة، ريثما ينتشر جيش الاحتلال ويتوزّع ويبدأ بالاستقرار، فتنتقل الى شن الهجمات الموجعة، ونصب الكمائن، ومع الوقت يصبح زمام المبادرة بيد المقاومة، وتبدأ فاتورة خسائر الجيش النظامي ترتفع. وهذا ما يحدث في جنوب لبنان من شهرين، وصولاً للحظة تقرّر فيها المقاومة بدء عمليّة طرد الاحتلال وإخراجه من أرضها. وهذا ما سيحدث عندما يفشل التفاوض، وقد احتوت المقاومة أصعب وأقسى الضربات التي استهدفتها، وهي اليوم في أتم الجهوزية لمواصلة حرب الاستنزاف، بما في ذلك تصعيد وضع عمق الكيان تحت النار، وتأليب الجبهة الداخلية ضد استمرار الحرب، وعندها يعود التفاوض مجدداً بشروط جديدة.
– نجاح المسار التفاوضي، يعني تطبيق القرار 1701 حرفياً، حيث انسحاب الاحتلال إلى الحدود الدولية يبدأ من الانسحاب من بلدة الغجر، ووقف الطلعات الجوية والانتهاكات البحرية، وعندها يستحقّ سحب الوحدات النظامية للمقاومة وأسلحتها الثقيلة إلى ما وراء الليطاني، ومعه يكون الانسحاب من سائر النقاط الحدوديّة التي تمّ حسم الخلاف حولها وإيجاد حل للنزاع حول مزارع شبعا باقتراح من الأمين العام للأمم المتحدة وفقاً لنص القرار 1701، والمقترح القائم والمقبول من الدولة اللبنانيّة يقول بتسليم المزارع إلى “اليونيفيل”، أما سلاح المقاومة فباقٍ وفقاً لمعادلة الشعب والجيش والمقاومة، حتى تتبلور استراتيجية للدفاع الوطنيّ تضمن حماية لبنان، وطالما أن الأميركي يُمسك بخناق البلد والجيش ويمنع تسليح الجيش بما يردع الاحتلال، فمن يملك جواباً على حماية لبنان بدون المقاومة؟
– من المبكر أن يتسرّع البعض للقول إن وحدة الساحات انتهت، لأن فشل التفاوض يعني أن الحرب مستمرّة والإسناد كوظيفة قائم، وإذا نجح التفاوض فهذا يعني أن جيش الاحتلال بلغ لحظة الانهيار وأن قيادة الكيان تسلّم بالفشل في حربها، وعندها لا يكون الجيش والكيان في وضعيّة تسمح بنظريّة التفرّغ لغزة، بل الذهاب الى الحل مع غزة، وربما يكون الثمن المترتّب على الخروج من حرب لبنان، عبر وقف انتهاك الأجواء اللبنانية والانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة، مقابل التسليم بالفشل في طرح مستقبل سلاح حزب الله على الطاولة، بما يعني التساكن مع بقاء هذا السلاح الذي لا يُبطل مفعول تهديده انسحابه إلى وراء الليطانيّ، بعدما تغيّر الأمر كثيراً عن حرب 2006، ولم تعُد فعالية الصواريخ والطائرات المسيّرة مرتبطة بنقطة تمركز السلاح، مع مدى مئات الكيلومترات لهذه الأسلحة، فيصير الذهاب إلى اتفاق غزة طريقاً لوقف نار في كل الجبهات، ومنها لبنان، وبقاء البحث مفتوحاً على التفاوض.