الجنائية الدولية… ضجيج بلا طحين!
} د. محمد سيد أحمد
خلال الأسبوع الماضي وفي ظلّ تصاعد العمليات العسكرية المجرمة من قبل العدو الصهيوني على جبهتي غزة ولبنان، صدرت مذكرة المحكمة الجنائية الدولية ضدّ رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، ووزير الحرب السابق يوآف غالانت باعتقالهما على أثر اتهامهما بارتكاب جرائم خطيرة ضدّ الإنسانية وضدّ المدنيين الفلسطينيين في غزة، حيث حمّل المدعي في المحكمة الجنائية الدولية كريم خان، نتنياهو وغالانت «مسؤولية القتل والتجويع ومنع وصول المساعدات الإنسانية، مثل الطعام والماء والأدوية والكهرباء والوقود إلى ملايين الفلسطينيين المسجونين في قطاع غزة، بعد تهجيرهم من منازلهم المدمرة، كما يتحمّلان المسؤولية عن الاعتداءات المتعمدة على المدنيين، وقتل الأطفال الذين ماتوا بسبب الجوع والجفاف وغير ذلك من الممارسات اللاإنسانية».
ولم ترهب كريم خان تهديدات العدو الصهيوني له وللمحكمة من إصدار أوامر الاعتقال، وكان ردّ فعل نتنياهو هو اتهام المحكمة بالعداء للسامية، واستمرار العدوان وتنفيذ عملية التطهير العرقي بحق السكان الفلسطينيين، وبالطبع شغلت أوامر الاعتقال الرأي العام العربي والعالمي، وتصدّر الخبر كلّ وسائل الإعلام، وتعالت الأصوات وكأنّ العدوان قد توقف فعلياً، وتمّ اعتقال نتنياهو وغالانت تمهيداً لتنفيذ الحكم عليهما، وكان تعليقي الفوري على الخبر وفي أكثر من وسيلة إعلامية، أنّ قرار المحكمة لا يساوي ثمن الحبر والورق الذي كُتب عليه، وبالتالي لا يجب أن يشغلنا عن الحرب الفعلية التي تقودها المقاومة الفلسطينية واللبنانية البطلة والشجاعة في مواجهة الآلة العسكرية الصهيونية المجرمة، فالكلمة العليا للميدان…
الفائدة الوحيدة لهذا الحكم هي تأكيد السردية الفلسطينية أمام الرأي العام العالمي، والتي تؤكد إجرام العدو الصهيوني وقادته السياسيين والعسكريين الذين يخوضون حرب إبادة لشعبنا العربي الفلسطيني منذ أكثر من عام، وسقوط السردية الصهيونية التي كانت تتهم أصحاب الأرض المحتلة بالإرهاب وبأنّ الصهاينة يدافعون عن أنفسهم.
ولتأكيد وجهة نظرنا حول الحكم الصادر بالإدانة من المحكمة الجنائية الدولية وعدم جدواه، فلا بدّ أولاً من التعريف بهذه المحكمة التي أنشئت في عام 2002 بموجب نظام روما الأساسي متعدد الأطراف. وهي منظمة حكومية دولية ومحكمة دولية مقرها لاهاي بهولندا، وهي المحكمة الدولية الأولى والوحيدة الدائمة ذات الاختصاص القضائي لمحاكمة الأفراد على الجرائم الدولية المتمثلة في الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم العدوان، ويعدّها مؤيدوها خطوة كبيرة نحو تحقيق العدالة، وابتكاراً في القانون الدولي وحقوق الإنسان، ومع ذلك واجهت عددا من الانتقادات فقد رفضت بعض حكومات الدول الكبرى الاعتراف باختصاص المحكمة وفي مقدمتها الدول العظمى (أميركا وروسيا والصين)، كما اتهمت جماعات مدنية أخرى المحكمة بالتحيّز والمركزية الأوروبية والعنصرية، كما شكك آخرون في فعالية المحكمة كوسيلة لدعم القانون الدولي. وتعمل هذه المحكمة على إتمام الأجهزة القضائية الموجودة، فهي لا تستطيع أن تقوم بدورها القضائي ما لم تبد المحاكم الوطنية رغبتها أو كانت غير قادرة على التحقيق أو الادّعاء ضدّ تلك القضايا، فهي بذلك تمثل المآل الأخير فالمسؤولية الأولية تتجه إلى الدول نفسها، كما تقتصر قدرة المحكمة على النظر في الجرائم المرتكبة بعد 1 يوليو/ تموز 2002 تاريخ إنشائها، وبلغ عدد الدول الموقعة على قانون إنشاء المحكمة 125 دولة حتى أكتوبر/ تشرين الأول 2024، وامتنعت دول عديدة عن التوقيع على ميثاق المحكمة في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين والهند، وحتى الآن لم توقع غالبية الدول العربية باستثناء الأردن واليمن وجيبوتي.
ولتأكيد عدم جدوى الأحكام الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، يمكننا الاستشهاد بقراراتها السابقة التي لم تنفذ، ففي عام 2009 و 2010 أصدرت المحكمة مذكرات اعتقال بحق الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، بتهم تتعلق بالإبادة الجماعية، وجرائم ضدّ الإنسانية، وجرائم حرب ارتكبها في حق قبائل وجماعات معارضة له في منطقة دارفور غرب السودان، وفي عام 2015 توجه عمر البشير إلى قمة الاتحاد الأفريقي التي نظمت في جنوب أفريقيا متحدياً بذلك أمر الاعتقال، لكنه لم يقبض عليه. وفي عام 2011 أصدرت المحكمة مذكرات اعتقال بحق الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي وابنه سيف الإسلام القذافي ورئيس جهاز الاستخبارات الليبية، بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية خلال الحراك الشعبي الليبي على خلفية الربيع العربي المزعوم، لكن تطورات الوضع لم تسمح بمثوله أمام المحكمة حيث استشهد، ولا يزال ابنه حراً طليقاً. وفي عام 2011 أصدرت المحكمة مذكرة اعتقال في حق رئيس ساحل العاج السابق لوران غباغبو، بتهم القتل العمد والاغتصاب والاضطهاد على خلفية أعمال العنف التي اندلعت بعد الانتخابات في عام 2010، ولم ينفذ أمر الاعتقال حتى قامت المحكمة بتبرئته في عام 2021. وفي عام 2023 أصدرت المحكمة مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بتهم تتعلق بجرائم ارتكبت خلال غزو أوكرانيا، بما في ذلك اتهامات بترحيل أطفال أوكرانيين قسراً، وبالطبع لم ينفذ أمر الاعتقال، وعلق الكرملين على المذكرة بأنها «مستفزة وغير مقبولة»، وشدّد على أنها «لا قيمة ولا أهمية لها على الإطلاق»، ولم تكتف روسيا بذلك بل أصدرت السلطات الروسية أوامر اعتقال ضدّ كريم خان رئيس المحكمة الجنائية الدولية وستة قضاة آخرين، وسنّ المشرّعون الروس قانوناً يجرّم التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، وفي خطوة استباقية للعقوبات المحتملة من المحكمة الجنائية الدولية ضد كبار المسؤولين الصهاينة أقر مجلس النواب الأميركي في 4 يونيو/ حزيران الماضي مشروع قانون يهدف إلى فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية ومسؤوليها، وأولئك الذين يدعمون التحقيقات في المحكمة التي تشمل مواطنين أو حلفاء أميركيين، ومشروع القانون قيد النظر الآن في مجلس الشيوخ الأميركي.
وبعد أن اتضحت الصورة الآن وأصبحت جلية تماماً بأنّ المحكمة الجنائية الدولية لا يمكن أن تحرك ساكناً، وأنّ الجدل الدائر حول مذكرة اعتقال نتنياهو وغالانت، عبارة عن ضجيج بلا طحين، وجب التنويه إلى الفرق الشاسع بين المحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية، حيث لاحظت الخلط بين المحكمتين، فمحكمة العدل الدولية تعدّ أحد أجهزة الأمم المتحدة، وتدخل كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة والبالغ عددهم 193 دولة في عضويتها بالتبعية، وتنظر محكمة العدل في القضايا التي تشمل الدول، أما المحكمة الجنائية الدولية فمستقلة قانوناً عن الأمم المتحدة على الرغم من تأييد الجمعية العامة لها، وعضويتها اختيارية للدول، وتنظر المحكمة الجنائية في القضايا ضدّ الأفراد بتهمة ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضدّ الإنسانية، لذلك علينا الآن أن نترك هذا الجدل ونركز في الميدان، فما تنجزه المقاومة على الأرض هو الذي سيحدّد مصير نتنياهو وعصابته. اللهم بلغت اللهم فاشهد…