فرصة للتعبير عن الإرادة العامة اللبنانية
د. بلال اللقيس
طرح طوفان الأقصى مشكلة التنوّع مجدّداً، والقرار في الدولة اللبنانية بحدة في الأيام الأولى، لكن لوحظ أنه عاد وتراجع، ربما بعدما اتضح الهدف الإسرائيلي وانتقاله في حربه من غزة إلى لبنان، وإعلان العدو مخططه دون تحفظ أنه كان يريد مهاجمة لبنان، وربما لكونه اتضح خلفية المقاومة وحزب الله ودافعهما على وجه التحديد في حرصه للحظة الأخيرة على حماية لبنان بينما يقوم بإسناد غزة، وربما بعد أن جاب أحرار العالم العواصم وأدانوا التوحش الصهيوني والجرائم والإبادات وكان أن أسقطوا مرشحاً ديمقراطياً في أميركا وصولاً لحالة الشواذ التي تبدو عليه «إسرائيل» في عيون الناس والبشريّة، وكان أن أصدرت محكمة الجنايات حكمها كنوع من الاشمئزاز و»القرف» الذي أوصلت «إسرائيل» العالم إليه والنفور منها.
وأيضاً لاحظنا في المقابل الآخر أنّ المسيحيين الذين لم تشكل فلسطين وقضيتها هوى لهم ولا اهتماماً تاريخياً (لا أقصد الأحزاب العلمانية) تراهم عادوا خطوة إلى الوراء واصطفوا اجتماعياً ووطنيا مع أهل مقاومتهم (تبقى هناك نتوءات لكن نحن نتحدث عن الأعمّ الأغلب) ففتحوا قلوبهم وبيوتهم ولم يبخلوا بالمساندة والدعم، فبرزت وطنيتهم وأخلاقهم الجماعية التي تستحث فيهم أن لا يخذلوا حقاً ولا ينصروا عدواً عنصرياً قاتلاً كالكيان الصهيوني.
فالواقع اللبناني عموماً وبغالبيته المطلقة عاد وتبنّى الانحياز العام للقضية الفلسطينية ولو جاء بعضهم متأخراً بعض الشيء.. فنحن أمام إجماع إسلامي عارم منذ الأيام الأولى مع تفهّم مسيحي مقبول وتأييد معقول للموقف من غزة والدفاع عن لبنان، وهذا الأمر يُبنى عليه للمستقبل، ويرخي بظلاله على لبنان بما يؤدّي إلى ولادة ثالثة من رحم هذه الحرب (ليس بالضرورة تغيير دستوري إنما المقصود تعديل في مسار بناء الثقة الاجتماعية والنظرة والشعور بالذات الوطنية وأهمية لبنان في محيطه العربي وموقع المقاومة فيه والشعب المقاوم وميزة أبنائه وعظيم قدرة هذا البلد الصغير.
فاللبنانيون عموماً عند هذا المحكّ التاريخي وحتى لحظة كتابة المقال تعاطوا بروح وطنية وتضامن عام في وجه عدوهم وعدو البشرية. إنّ مسألة النزوح اليوم والموقف التضامني هي نصف الحرب، والمقاومة المسلحة هي الجزء الثاني. لذلك نعتقد انّ هذا التكامل الذي أفترض انه انطلق من دوافع وطنية وسياسة فضلاً عن إنسانية ودينية وضع النقاش التاريخي في لبنان في نصابه، فجعل منه التنوّع الذي يؤسّس لأرضية تثبيت الكيان. فعندما نجح اللبنانيون بصدّ أكبر هجوم أميركي غربي «إسرائيلي» في التاريخ الحديث، ومنعوا العدو من احتلال شبر من الأرض، فهذا نجاح وتثبيت للكيان اللبناني ككيان وتمييز له. وعندما تمكنوا أن يضمّدوا جراحهم ويقفوا ويستعيدوا المبادرة في هذه المعركة فهذا يعني أنّ لبنان بلد «معجزة»، وعندما ينفضون عن ثيابهم لوثة تاريخية وصموا واتهموا بها ذات يوم من فضائهم العربي؛ واذ بهم الوحيدون الذين قصفوا تل أبيب وحيفا ودافعوا عن فلسطين ونصروها، فمن الآن لا مكان ليزايد أحد على لبنان ومكوناته ويتهمه، بل هو لبنان من يمتلك لياقة أن يحاسب ويتهم الآخرين، ناهيك انّ لبنان لم ولن يعود نقطة الضعف التي تنفّس فيها الأنظمة العربية مشاكلها بدعوى «خيانته» وانحيازه لـ «إسرائيل» والغرب. اليوم لبنان بمسلميه ومسيحييه وقف وضحّى وقدّم، لذلك صار العرب في موقع السؤال والنقد وليس نحن، علماً أنّ كلّ ذلك حصل والكلفة الثقيلة كانت على بعضه وليس على كله، لكن عدم معارضة أصحاب الثقل القليل يجعلهم في موقف القوي ويكسبهم مع لبنان حين يحين المغنم نتيجة هذا الثبات الأسطوري والروح الوطنية الجامعة.
فطوفان الأقصى وموقف لبنان المتقدّم نصرة لفلسطين ولد ضميراً وحساً مشتركاً في الأمة كلّ الأمة، وفي داخل الأقطار، وأعطى لاجتماعنا المدى الإنساني والأخلاقي، وأعطى للبنان قيمة إلى جانب القضية الفلسطينية في دوره عقلنة تفكير كثير من أنظمتنا العربية المخدّرة والتائهة عن مصالحها منذ زمن. وسيؤسّس هذا الصمود الأسطوري لتداعيات كبرى تجعل موجة التحرر تعلو وتتعمّق وتتمدّد إقليمياً وعالمياً،
أما لماذا لبنان استطاع ان ينجز ما عجز عنه العرب، فهذا بحث آخر …
نختم فنقول، إنّ تنوعنا في لبنان يحمل بذور اللحمة والفرقة في آن. ولسوء حظ اللبنانيين انّ ساستهم لم يهتدوا إلى عظيم مسار التكامل والتعارف منذ تأسيسه، واشتغلوا لاجتناب المشترك والاستغراق في التمييز الداخلي فضلاً عن الخارجي، ومما لا شك فيه أنّ تحوّلات القرن الماضي التي أصابت لبنان عند المسلمين والمسيحيين لا شك في أنها طالت الثقافة والقيَم فأثرت وتؤثر على إدراكات الطرفين للقضايا والعالم من حولهم والموقف منها. فأثرت على السياسة ومنظوراتها. لكن أمام هذه اللحظة الحضارية الفاصلة من العدوان الصهيوني فنحن فعلاً أمام أكبر فرصة لترجيح وتعميق إمكانيات اجتماعنا على قاعدة التنوع بدل ترديد شعارات التباعد. هنا يمكن للبنان ورسالته ان يتمظهرا ويتجليا لتبنى كنقيض لـ «إسرائيل» بالمعنى الحضاري والفكري، وككيان متميّز عن غيره من الدول العربية في حيويته وحضوره وهويته. لذلك إنّ نجاحنا في هذا التحدي الذي أعلنته «إسرائيل» صراع وجود ومعركة حضارية بين الغرب وبيننا، إنّ نجاحنا وصمودنا وتآزرنا في هذه المعركة التاريخية حتى لو غلت الكلفة سيعود ربحاً كبيراً وبعيد الأثر على كلّ حال ويؤسّس لثقافة وتربية ومنطق أرشد في قيام لبنان وكينونته. فالحروب مع العدو فرصة لتربية وتنشئة مجتمعات وإنتاج أحد عمودي بناء الهوية، فكيف إذا كانت الحرب مع عدو توسعي معاد للإنسانية قتال!
وسيشكل التضامن والتكاتف في هذه اللحظة التاريخية مدخلاً لإعادة مفهمة معنى التنوع والتعدّد، والصحيح منها من السقيم، ويطلق دينامية جديدة في لبنان أمام عالم كلّ شيء فيه يتحوّل!
التحدي اليوم هو كيف نستغلّ ونعمّق هذا التنوع الجميل ونبقي التنافس لاحقاً بيننا بأبعد مدى لجهة على الشرعية الشعبية والفاعلية والتأثير في لبنان والإقليم والعالم من خلال النموذج.
هذه المعركة الأخلاقية وتعاطي الغالبية من اللبنانيين معها فتحت طريقاً واسعاً في جدار العلاقة بين مكوناته وأسّست لنبذ منطق الاصطراع الداخلي على الزعامة لحساب التوحد في مقابل الآخر العدو. وهذا منطق جديد في لبنان يختلف عن منطق 1982 عندما كانت «إسرائيل» تصل في ساعات إلى العاصمة، وكان البعض يلاقيها وينسّق معها على حساب شريكه.
أظن أنّ هذه المعركة التاريخية ثبتت لبنان في ذكرى استقلاله وتركت لاحقاً للتنافس الداخلي مدته، لأنّ التنافس بلا كينونة تشظ! ولا بأس لاحقاً أن نجد السعي لتشذيب خطابنا وعقلنة مقارباتنا في السياسة لأبعد مدى ممكن، فنجاحنا في معركة الوجدان هي مقدمة لنجاحنا في معركة بناء المؤسّسات وعقلنة الاجتماع ودخول لحظة الدولة فعلياً وليس شكلياً فحسب. إنّ معركة لبنان اليوم بوجه عدوّه ليست درساً قانونياً ودستورياً رغم أهمية الدستور، بل هي درس عملي تطبيقي يتيح فهماً أفضل وأوثق لدستورنا، وهذا الدرس أو هذا السير سيساعدنا حتماً نحو تحديد الذات تدريجياً وبناء الإرادة العامة غير المعرّفة منذ نشوء لبنان.
لذلك فلنُعقلِن السياسة ولنريح الثقافة ونعطيها مداها الأخلاقي الإنساني لأنّ التنوع الذي قبلناه في لبنان هو التنوع الثقافي وليس السياسي فحسب، ونظنّ أنه يحمل بذاته ضمانته الأخلاقية الإنسانية الإيمانية النابعة من مقصد الإسلام والمسيحية باعتبار أنّ الشعب اللبناني شعب مؤمن بالدين ويعرف معنى الحق ولم تلتبس على غالبيته منظومة المعاني الأخلاقية حتى الآن. وهذا ما يؤهّلنا للحوار والتعارف الحضاري، رغم الصعوبات ورغم ترويج بعض القلة من الطرفين لنظرية اللاتشابه، والتي لم يظهر أنها تعبّر عن الإرادة العامة اللبنانية.