المقامرة بالمغامرة…
د. حسن أحمد حسن*
مؤلمٌ وصادم أن يُعَاْدَ تدوير الإرهاب التكفيري المسلح وإطلاق يده لتجريب حظوظ مشغلّيه بجولات تتوالى على جبهات متعددة تخلّف الكثير من الوجع والكوارث والافتئات على الشعوب والدول وحقها في العيش بكرامة ووفق النموذج الذي تريده بعيداً عن لغة الفرض والإملاءات الخارجية المرفوضة بالفطرة، واللافت في الأمر أنّ صناع القتل ومصاصي الدماء لا يملّون من افتضاح حقيقتهم الشيطانية المهووسة بإشعال الفتن والحروب وتعميم الخراب والدمار والمصائب التي يخلفها إرهابهم الممنهج بعد إمداده بكلّ ما يلزم لإعادة تجميع نفاياته وحقن أوردته بحقد أعمى حمل في آخر فصوله الإخوانية الأردوغانية المتكاملة مع توحشٍ وعجزٍ صبغا أداء حكومة نتنياهو الأكثر إجراماً في تاريخ البشرية، مما حشر الدولة العميقة المتحكمة بمفاصل صنع القرار الأميركي في زاوية فرضت عليها الاختيار بين أمرين أحلاهما مرّ:
1 ـ الاعتراف العلني بانتهاء الدور الوظيفي للكيان السرطاني المصطنع والمفروض على دول المنطقة وشعوبها، وهذا ما لم يضعه صنّاع القرار الأميركي في الحسبان، وبالتالي لا يمكنهم اعتماده لأنهم غير جاهزين للتعامل مع تداعياته التي دفعتهم للمقامرة بالمغامرة التي قد تمنحهم وقتاً إضافياً ضرورياً يضمن لإدارة بايدن أحد أمرين:
أ ـ احتمال تحقيق نتائج ميدانية يحملها معهم الديمقراطيون كمنجزٍ لم تستطع أيّ من الإدارات الأميركية السابقة بلوغه، وهذا مرهون بليّ ذراع الدولة السورية، أو كسرها إنْ أمكَن، وعلى هذا يترتب الكثير إقليمياً ودولياً.
ب ـ تضمين مراسم تسلّم ترامب مفاتيح البيت الأبيض حقيبة مفخخة وقابلة للانفجار في أي لحظة مما يفقد الأشقر المتهوّر القدرة على الاستمرار بمكاسرة الدولة العميقة وتغيير مؤشر بوصلتها، وعندها لكلّ حادث حديث.
2 ـ أما الخيار الثاني الذي أفرزه تعثر مشروع الهيمنة وإحكام السيطرة، وتعدّد منحنيات عجز الإفراط في استخدام الطاقة التدميرية عن بلوغ أدنى درجات السقوف المرفوعة علناً من حكومة نتنياهو فقد تبلوَر بصورة أكثر خبثاً وأشدّ خطراً عبر التركيز مجدّداً على استهداف درّة الشرق وصمّام أمان المنطقة سورية التي ألغت من قاموسها السياسي كلّ ما له علاقة بالمساومة على الثوابت والسيادة ومحدّدات الهوية، مما زاد من الحقد على دمشق التي ترى مراكز الدراسات الاستراتيجية «الإسرائيلية» والأميركية والأطلسية أنها العقبة الكأداء التي قطعت الطريق على إمكانية الاستفراد بالمقاومتين الفلسطينية واللبنانية، ولذلك تجب معاقبتها ومضاعفة الضريبة التي عليها دفعها. وهذه القناعة الممزوجة بالحقد على سورية العصية على الترويض تشكل قاسماً مشتركاً لدى جميع حَمَلَةِ النزعة الصهيونية المتأصّلة بمفاصل صنع القرار الأميركي، الذين يحضرون معهم دائماً عنوان: «الانتقام من سورية الأسد» ليبقى حاضراً ضمن مروحة السيناريوات التي تعرض على الطاولة في مثل هذه المنعطفات الحادة التي تواجه الغطرسة الأميركية. ويبدو أنّ حكومة نتنياهو نجحت في إضافة بعض البهارات والمنكهات التي تمنحها إمكانية «دفع الخطر العاجل بالخطر الآجل» عبر الترويج لجدوى النفخ على الرماد والجِمار التي ما تزال متقدة تحته على الجغرافيا السورية، والتقليل من أخطار احتمال تفجير المنطقة، أو التحكم بمراحل التفجير وتوجيهها وفق التداعيات التي تخلفها كلّ مرحلة، ويبدو أنّ الكفّة قد رجحت بهذا الاتجاه الذي يقلق بال واشنطن وتل أبيب في آن معاً، فسعى نتنياهو لتضمين خطابه للداخل الاستيطاني المأزوم ما يبرّر به الموافقة على وقف إطلاق النار مع حزب الله من دون تحقيق أيّ من الأهداف الاستراتيجية التي سبق وتبجّحت بها حكومته أكثر من مرة. ويبدو أنّ نتنياهو قد نجح في تسويق ما أراده عندما هدّد سورية مشدّداً على أنّ: «الرئيس السوري يلعب بالنار».
اختيار كلمات هذه الجملة لم يكن عفوياً ولا عرضياً عابراً، لأنها كلمة السر المتفق عليها مع بقية أصحاب الأدوار الوظيفية كلّ في ما يخصه، وضمن الصلاحيات الممنوحة له في نطاق حدود مسؤولياته، وسرعان ما تلقف أردوغان المتخوّف من تآكل أهمية الاعتماد على الدور التركي إذا تمّ التأكد من انتهاء صلاحية استخدام الإرهاب التكفيري المسلح الذي أسندت لأردوغان مهمة الإشراف على فصائله بمسمّياتها المختلفة، وهنا استفاقت النزعة العثمانية لتحرك أحقاد العقل الإخونجي المحقون بسموم الاستخبارات البريطانية التي استولدت مفرخات الإرهاب، وغطتها بلبوس ديني يرفض الآخر ويستحلّ ذبحه وشرب دمائه وأكلَ لحمه نيئاً من دون أن يرفّ جفن لأعداء الله والإنسانية.
المجاميع الإرهابية المسلحة المنتشرة في إدلب ومناطق أخرى في غرب حلب كانت تنتظر بدورها ما يعيد تسليط الضوء عليها بعد خمود نيران المعارك الكبرى على الجغرافيا السورية منذ تفاهمات أستانا 2020م. وفي ضوء هذا يمكن فهم ما تمّ الحديث عنه بخصوص الاجتماعات السابقة التي أعلن عنها منذ مطلع هذا العام بين متزعّمي تلك الفصائل الإرهابية وبين ضباط استخبارات أميركيين و»إسرائيليين» وأطلسيين وأتراك وغيرهم، حيث تمّ تحديد الدور المطلوب تنفيذه من الجميع، مع إسناد مهمة الزعامة لهيئة تحرير الشام، أيّ لتنظيم «جبهة النصرة» المصنّف على لائحة الإرهاب العالمي وفق وثائق المنظمة الدولية، ومن المسلّم به أن يتمّ تزويد أولئك بكلّ ما يلزمهم، بما في ذلك تدريبهم على تنفيذ المهمة بحذافيرها، وبأسرع وقت ممكن. وهذا يفسّر الموجة التصعيدية الجديدة بزعامة «هيئة الجولاني»، وانضواء الآلاف من بقية المجموعات الإرهابية المسلحة إلى الحملة المكلفة بتحريك السكين المسمومة في الجراح السورية قبل أن تلتئم، ولأنّ الأطماع العثمانية لم تحذف من أجندتها حلب بكلّ ما تعنيه وما تختزنه تمّ توجيه قطعان القَتَلَة لاستهداف العاصمة الاقتصادية السورية بالتزامن مع توجيه موجات أخرى متلاحقة باتجاه إدلب، والتكشير عن الأنياب المدماة على أسوار حماة التي شهدت أطرافها الشمالية بداية انكسار الموجة الأشدّ عنفاً على الجغرافيا السورية منذ آذار 2011م، وبعد نجاح وحدات الجيش العربي السوري في امتصاص الهجوم الأشرس والأخطر وإبطاء وتيرته تمّ الانتقال إلى مرحلة إيقافه بالتزامن مع إقامة خط دفاعي محصّن ومنيع، والإسراع بتحضير متطلبات الانتقال إلى الهجوم المعاكس، وقد بدأت تباشيره تأتي تباعاً بعد تطهير العديد من القرى والمحاور في ريف حماة الشرقي، وهذا يعني أنّ الموجة التصعيدية قد بلغت الذروة، ولم يستطع منفذوها إطالة أمد هذه الذروة، بل سرعان ما تبدّلت الصورة الميدانية، ولا تزال تتبدّل على مدار الساعة، وواهمٌ من يظنّ أنّ الاختراق الذي حصل صالح للبناء عليه.
باختصار شديد يمكن القول: لا يجوز التقليل من خطورة ما حدث، وفي الوقت نفسه لا يجوز أن يبقى حائط مبكى، فأكثر الانتصارات التي خلفتها الحروب على امتداد التاريخ الطويل للبشرية لم تخلُ من تعثر هنا وإخفاق هناك، والعبرة في الخواتيم وليست في اليوميات، وسورية ليست وحيدة ولن تكون وحيدة لا الآن ولا مستقبلاً، ومن استطاعوا الصمود والاحتفاظ ببوصلتهم السياسية والوطنية على امتداد أكثر من ثلاثة عشر عاماً هم اليوم أكثر تمسكاً بثوابتهم، وأكثر إصراراً على اجتثاث ما تبقى من إرهاب مُصّنَّع ومدعوم من قوى إقليمية ودولية، وليس أمام أبالسة العصر الذين استمرؤوا النفخ في الشوفار الصهيوني لإحراق المنطقة إلا أن يسقطوا من حساباتهم أنّ المقامرة بالمغامرة لن تكون مجدية في كلّ مرة، فالتعويل على إمكانية تحقيق أهدافهم الشريرة عبر الاستثمار بالإرهاب سياسة حمقاء، فما يتبقى من إرهاب ستمتدّ ويلاته ونيرانه لتطال الجميع، وتكرار محاولات العبث بأمن سورية واستقرارها هو عبث بأمن المنطقة بكليتها، وإذا خرجت التداعيات عن السيطرة فلا ضامن لأحد، ولا تستطيع أي جهة داخل المنطقة وخارجها أن تقول إنها بمأمن من أن تطالها وتلفحها ألسنة اللهب والنيران المتنقلة، وعلى من انتظروا ثلاثة عشر عاماً لكسر إرادة السوريين أن ينتظروا ثلاثة عشر قرناً جديداً ولن يعودوا إلا بخفي حنين…
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية