نموذج الحزمة القاتلة بين حربي لبنان وسورية
ناصر قنديل
– يتوقف فهم مسار الحروب على الخروج من متابعة اللحظة وعدم الغرق فيها ليتمكن المتابع من رؤية المسار ورسم النموذج الذي تقدمه خطط الحرب، واستشراف خط النهاية فيه، ومن خلاله شكل المواجهات المرتقبة وآفاقها، ولذلك كان واضحاً أن مسار الحزمة القاتلة التي نُفّذت ضد حزب الله في حرب لبنان في الأيام العشرة الممتدة بين 17 و27 أيلول، هو مسار تصاعدي بدأ بضربة كبيرة هي تفجير أجهزة البيجر التي أخرجت 4000 من عناصر بنية المقاومة وكوادرها من ساحات العمل، وانتهت بضربة أكبر هي اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، والهدف واضح وهو مواجهة قوة صلبة في الميدان ظهرت ثابتة على الحافة الأمامية تتقن مهارات الرمي والقتال، وقوة نارية مثابرة تنجح في الاحتماء والتمويه رغم كثافة الطيران الحربي والاستطلاعي وتواظب على إطلاق الصواريخ يومياً على مستوطنات شمال فلسطين المحتلة والمواقع العسكرية فيها بصورة يومية منتظمة، بحيث تؤدي الحزمة القاتلة إلى إسقاط هذه القدرة من فوق، أي بضرب روحها القتالية عبر وقع هذه الحزمة عليها، وضرب منظومة القيادة والسيطرة التي تربطها بمركز الحزب، وحيث إن التنبؤ بطبيعة الضربات التي تتضمّنها الحزمة لم يكن متاحاً، بحيث لم يكن متاحاً إحباطها، لذلك كانت قوة المقاومة تتمثل بالقدرة على استباق الهدف ووضع الخطط لإحباطه، عبر ما قال الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم إنها الخطط التي وضعها الأمين العام الشهيد السيد حسن نصرالله لكيفية التصرّف، خصوصاً على الجبهة الأمامية وجبهة الإسناد وفق العديد من السيناريوات، بما فيها السيناريوات التي وقعت، ومن ضمنها اغتيال الأمين العام نفسه.
– الواضح بعد فشل البرنامج الضخم الذي وضع لإسقاط لبنان ومقاومته، وبلوغ جيش الاحتلال اللحظة الحرجة التي تصعب معها مواصلة القتال، أن وقف إطلاق النار ليس خياراً انتقائياً بالنسبة لقادة المشروع في واشنطن وتل أبيب، بل هو ممر إلزامي يمتد لشهور وسنوات، بعدما استنفد الخيار العسكري فرصه بسقوط الحزمة القاتلة رغم الدوي الضخم والأذى الكبير الذي أحدثته من جهة، ومن جهة مقابلة بعد بلوغ الجيش والجبهة الداخلية مرحلة استنفاد القدرة على مواصلة المنازلة، ولذلك يجري التركيز على أشكال تفاصيل ومضامين وقف إطلاق النار، لتحويلها الى فرص لمواصلة جني الأرباح وتخفيض الخسائر. وتبدو الحلقة المركزية في هذا السياق كل الإجراءات التي يمكن أن تندرج تحت عنوان قطع طرق الإمداد على المقاومة، بحيث لا ينتهي السباق المقبل بين جيش الاحتلال والمقاومة استعداداً للجولة المقبلة الى النتيجة ذاتها التي انتهى إليها الاستعداد المتقابل بين عامي 2006 و2024. ومن هنا حضر عنوان سورية بالإضافة لأسباب جيوسياسيّة جيواستراتيجية تختزنها سورية بذاتها، كانت هي ما جعلت من استهدافها بحرب ضارية لعشر سنوات، باعتبار التغيير الذي يطال موقعها، عامل تغيير شامل في المنطقة.
– ما يجري منذ بدء غزوة حلب هو تبادل مواقع على الخريطة الأميركية الإسرائيلية بين لبنان وسورية، بحيث يجري من جهة استيراد نموذج “المعركة بين حروب” المنفذ في سورية منذ سنوات، عبر الاستهداف المنتظم دون بلوغ حافة الحرب، ليصبح هو النموذج الذي يحاول الإسرائيلي فرضه ويسعى الأميركي إلى تمريره بصفته الترجمة الميدانية لوقف إطلاق النار، ويجري من جهة مقابلة تصدير نموذج الحزمة القاتلة التي استهدفت حزب الله ويبدو أنه تمّ تصميم مثلها لسورية. والواضح أن ما شهدناه في غزوة حلب هو مثال ضربات تحت الحزام ومن خارج العلبة التقليدية، يشبه ضربة البيجر، ولكنه يجب أن يفتح العين على آخر السياق الذي قد يحتوي على ضربات أشدّ قسوة، يكون الأميركي في قلبها أمنياً وعسكرياً، كمثل اغتيال الشهيد السيد حسن نصرالله، أملاً بإحداث فوضى شاملة وانهيار معنوي، والأهم إصابة خط الإمداد الذي تعتمده المقاومة وموقف سورية الداعم لها. وهذا لا يغيب عن القيادة السورية وكيفية التحسب لهذه الاحتمالات وإحباطها، وكيفية وضع الخطط الافتراضية للتعامل مع أسوأ الاحتمالات. ولعل الحركة السياسية الواسعة التي تقوم بها سورية وتؤتي ثمارها حصانة وتحالفات والتمهل بالبدء بالهجوم المعاكس بانتظار رؤية آخر السياق وإحباطه، تعبير عن مستوى إدراك القيادة السورية وانتباهها وفهمها لكيفية إدارة الصراع بعقل بارد وأعصاب فولاذية. ورغم كل المكاسب العسكرية التي حققتها الغزوة حتى الآن يبدو أن ما حققته سورية سياسياً ودبلوماسياً أهم، بدليل التلعثم في خطاب المرجع الذي أنيطت به مهمة قيادة هذه الحلقة من الحرب، وهو الرئيس التركي رجب أردوغان.
– تشديد الخناق على أردوغان يبدو الردّ الاستباقيّ اللازم لإجهاض ما بقي من حلقات في الحزمة القاتلة، أو احتوائها، أو الردّ عليها. وقد صار واضحاً أن ما جرى أشبع بعمليّة التبييت التي يُجريها لاعب الشطرنج بعدما يتعرّض ملكه لضغط وخطر شديدين، فيستبدل القلعة بالملك لتتصدّر المواجهة بدلاً منه، ويكون الجواب الأهم على التبييت هو عزل القلعة، بوضعها تحت التهديد وإجبارها على القيام بنقلات حماية بعيداً عن الملك الذي يفترض بها حمايته، ولعل هذا ما يراه المتابع في الحراك الروسي الإيراني العراقي الشديد اللهجة في التخاطب مع تركيا، وفي القلق التركي من خطر الانزلاق إلى مواجهة غير مستحبّة مع قوى كبرى بالمقابل. وتبدو سورية تمهد لإنشاء تحالف دولي إقليمي للقضاء على الإرهاب، على مستوى دول المنطقة والعالم، يحول التحدّي الذي أرادته واشنطن وتل أبيب من غزوة حلب إلى فرصة، وبدلاً من التركيز على خط إمداد المقاومة، يصبح التركيز على مستقبل الجماعات الإرهابية ومخاطر عودتها القوية وكيفية معالجة هذه المخاطر، واستحالة الجمع بين مزاعم العداء للإرهاب والعداء للدولة السورية والسعي لإضعاف مصادر قدرتها على المواجهة سواء عبر العقوبات الاقتصادية أو المقاطعة السياسية.
– عندما تنجح واشنطن بمصالحة قوات “قسد” وتركيا وتؤمن تبادل مواقع وتعاون في المواجهة مع الدولة السورية بين “قسد” والقوات التابعة لتركيا، فهذا يعني أن إدارة دقيقة وتفصيلية تجري للفوز بهذه الجولة ضمن الحزمة القاتلة، بحيث يتهدّد طريق العراق سورية، وعندما يكون الردّ بتحرك الحكومة العراقية نحو سورية وليس قوى المقاومة العراقية، فذلك يشكل إرباكاً في نقطة حرجة للخطة، وعندما يعلن رؤساء أركان أربعة جيوش هي سورية وروسيا وإيران والعراق التنسيق لمواجهة خطر الإرهاب، فهذا يؤكد حجم إدراك الدول المعنية بهذه الحرب لكيفية إدارة الصراع برفع مستوى التفاعل من المستوى الشعبي إلى المستوى الحكومي. فهذا أيضاً يشير إلى حجم التحديات الراهنة والمرحلة الدقيقة التي تعبر بها المنطقة، حيث يضع الأطراف أوراق القوة على الطاولة وليس تحتها.