الشعب المصري وفلسطين ورفض التطبيع…
المحامي فؤاد مطر
انّ اهتمام الشعب المصري بقضية فلسطين وتفاعله معها ومواكبته لها بدأ مع تظاهره عند مرور آرثر بلفور عام 1925 بالقاهرة في طريقه لافتتاح الجامعة العبرية، ومع حادث البراق عام 1929، وعقب قيام ثورة الشعب الفلسطيني عام 1936، وذلك من خلال جمع التبرّعات لضحايا الثورة بجهود الهيئات والتنظيمات الشعبية، كما شكلت الحركة الطلابية والأزهر لجاناً لمساندة الثورة الفلسطينية لجمع التبرّعات والدعوة لإيقاف الهجرة اليهودية.
ثم بدأت الدعوة الى الكفاح المسلح في فلسطين كردّة فعل على قرار التقسيم عام 1947 حيث اجتاح الجماهير سخط عارم، وسادت المظاهرات والإضرابات تعبيراً عن احتجاج لم يسبق له مثيل.
وتدفقت أعداد كبيرة من المتطوّعين في أعقاب حرب 1948، من بينهم جمال عبد الناصر الذي التحق بدوره بالمتطوّعين العرب وساهم في تدريب الشباب الفلسطيني على المقاومة المسلحة وتأطير المتطوّعين، وانتقل بوصفه رئيساً لأركان حرب الكتيبة السادسة الى غزة، وقاتل في الفالوجا ببسالة ورفض الاستسلام، وصمد أمام الحصار لأشهر، وأصيب بجراح بليغة مرتين، وقتلت القوة التي كان يقودها 118 جندياً صهيونياً، وأثناء حصاره في الفالوجا بدأت طلائع الوعي تتسرّب الى تفكيره حيث تبلورت معه ضرورة القيام بالثورة.
انّ الرأي العام في مصر كان واعياً ومدركاً أيضاً للمخاطر المحدقة التي تنتظره، وقد اضطرت الحكومة المصرية الى دخول المفاوضات مع العدو «الإسرائيلي» التي انتهت بالتوقيع على اتفاقية الهدنة في رودس عام 1949، وحتى بداية الخمسينيات لم تثمر المفاوضات في التوصل الى اتفاق يضمن اللاجئين ويضمن لمصر عودة النقب.
خلال الحقبة الناصرية كان السعي الى استرداد حقوق شعب فلسطين هو السائد، ولم تطرح المساومة في الحقوق، بل الإصرار على استرداد الجزء السليب في الوطن العربي الذي انتزع خروجاً على الطبيعة والتاريخ والحق كحركة عنصرية عدوانية أرادها الاستعمار ان تكون قاعدة ارتكاز لقطع التواصل واستنزاف لثروة الأمة.
لم تسجل سوى محاولة بائسة في حينها من العدو الصهيوني عام 1960 بالتحريض ضد المقاطعة العربية، والضغط على الرئيس كيندي، عندما كانت سفينة الشحن «كليوباترا» المصرية تحمل شحنة من المنسوجات، وتم تفريغها في ميناء نيويورك، على ان تعود محمّلة بالقمح، فما كان من الرئيس جمال عبد الناصر سوى التوجه الى مبنى الإذاعة حيث روى بإيجاز، وطالب اتحاد عمال الموانئ العربية بالردّ، وفي خلال ثلاث ساعات تمّت مقاطعة ثمانين سفينة أميركية، فاضطرت الأخيرة لتفريغ وشحن السفينة المصرية.
للأسف، أدخل السادات التطبيع الى مصر في إطار معادلة «الأرض مقابل السلام» من خلال اتفاقيات فضّ الاشتباك التي تدرّجت حتى زيارة السادات إلى «إسرائيل» عام 1977، وتوقيع اتفاقيات كامب دايفيد عام 1978، ومعاهدة السلام عام 1979 المزعوم.
وإذا كان التطبيع قد سار باتجاه رسمي، فقد واكبته مواجهة رفض شعبي كامل وحاسم، بالإضافة الى مقاطعة صارمة ومناهضة للتطبيع من جانب النقابات المهنية الأكاديمية، ومن القاعدة العريضة من المثقفين الذين نقلوا هذه المقاومة المدنية الى المستويات الشعبية من خلال إمدادها الدائم بالمعلومات والتحليلات التي توضح مخاطر التطبيع في كافة اتجاهاته مع أسهامات الصحافة المصرية، وكتابات المفكرين عن مقاومة التطبيع حيث قدّمته باعتباره تهمة تلصق بمن يسير في ركابه او يدافع عنه، وتمّ عقد آلاف الندوات والمحاضرات بهذا الشأن.
انّ الاتجاه العام والغالب على الرأي العام المصري، وعلى اتجاهات المثقفين والكتاب والمفكرين والأحزاب والنقابات هو معارضة ومناهضة التطبيع، ولا يخرج عن الإجماع سوى قلة من الأفراد.
تعدّدت صوَر مناهضة التطبيع من جانب النقابات والاتحادات المهنية والهيئات الثقافية، وفي مقدّمتها نقابات المحامين والصحافيين والأطباء والصيادلة والمهندسين، واتحاد طلاب الجمهورية، واتحاد نقابات المهن الفنية – التمثيلية والسينمائية والموسيقية – والاتحاد العام للعمال ونقاباته العامة، وبصفة عامة كافة التخصصات المهنية، وعبّروا عن مناهضتهم للتطبيع بأشكال وأساليب متنوعة.
انّ الصحافة المصرية شنّت حملاتها الرامية الى مواجهة التطبيع في كافة جوانبه، وظهرت كتابات عديدة في الصحف القومية والحزبية على السواء تتصدّى للتطبيع، وتواجه التشكيك في هوية مصر وانتمائها العربي، ورفض استخدام الحدّ من قدرات الجيش المصري وتحديث ترسانته العسكرية.
كما ناهضت مختلف القوى السياسية المعارضة في مصر التطبيع مع العدو الإسرائيلي، وفي مقدمتهم الناصريون الذين ينظر إليهم الصهاينة على أنهم أبرز المعارضة الرئيسية للتطبيع وعقد الاتفاقيات،
ويصوّر الناصريون الصراع مع الصهيونية بأنه نزاع مصيري، وانّ النضال ضدّ مشاريعها يتطلب رفض ايّ تفاوض معها، وانّ الحلول الوسط تؤخر يوم الانتصار ضدّها، فهو خيانة لا تغتفر، وقد اعتبرت محكمة القضاء الإداري التي تنظر بدعوى تحريم الناصريين من حق نشوء تنظيم سياسي لهم، حيث رأت انه ليس هناك في اتفاقية السلام مع «إسرائيل» ما يكسبها قداسة تحظر نقدها.
شهدت فترة الثمانيات عدة مواقف، منها في معرض القاهرة الدولي للكتاب رفضاً لاشتراك «إسرائيل» في هذا النشاط الثقافي، كما شهدت عدة أحداث مهمة تعكس المقاومة المسلحة كأسلوب لرفض التطبيع الرسمي، ومن بينها العمليات التي قامت بها «ثورة مصر».
وفي أعقاب غارة «إسرائيل» على مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس عام 1985 قام الجندي المصري سليمان خاطر بإطلاق النيران على سبعة «إسرائيليين» فأرادهم قتلى، وشهدت فترة محاكمته عدة مظاهرات عبّرت من جهة عن تأييد خاطر ومن جهة أخرى عن معارضتها لاتفاقيات الذلّ والهوان.
وحادثة أخرى في العام نفسه، وهي اغتيال الملحق الإداري في سفارة «إسرائيل» في القاهرة كردة فعل على اكتشاف شبكة تجسّس «إسرائيلية»، واعلن تنظيم «ثورة مصر» مسؤوليته عن الحادث، وفي العام نفسه أيضاً كشفت أجهزة الأمن المصرية شبكة تجسس تضمّ عناصر من السفارة «الإسرائيلية» في القاهرة وبعض الدبلوماسيين الأميركيين في القاهرة، وقدّ تمّ ترحيلهم من مصر.
أما في العام 1986 فقد تمّ قتل «إسرائيلية»، وإصابة ثلاثة في إطلاق النيران عليهم أثناء جولتهم في معرض القاهرة الصناعي والزراعي في مدينة نصر، وأعلن تنظيم «ثورة مصر» مسؤوليته عن الحادث.
في 17/9/1987 تمّ اعتقال أعضاء تنظيم «ثورة مصر» ثم محاكمتهم، وتحوّلت القضية الى حالة استفتاء شعبي عارم ضدّ التطبيع، وأطلق عليها محاكمة العصر، وقد أحاطت السلطات المصرية التحقيقات بتكتم شديد، وأصدر النائب العام قراراً يحظر نشر التحقيقات الدائرة، ونسب الاتهام الى المهندس خالد جمال عبد الناصر والى عدد من العناصر العسكرية والمدنية ومن عناصر الاستخبارات المصرية.
تجاوبت الأوساط الشعبية ومختلف القوى السياسية مع دعم انتفاضة الشعب الفلسطيني عام 1987، وتقدمت نقابة المحامين بدورها البارز، وتقدمت بدعاوى قضائية لطرد السفير «الإسرائيلي»، وصدر قرار عن نقابة الصحافة رفض ايّ زيارة للصحافيين المصريين الى «إسرائيل»، وقد تمّت إحالة بعض الصحافيين الى المجلس التأديبي التابع لها لمخالفتهم قرار الجمعية العمومية. وأصدرت الجمعية العمومية لنقابة الفنانيين قراراً يقضي بمقاطعة كلّ أشكال التعامل الفني والثقافي مع العدو الإسرائيلي، وتصدّى قطاع التعليم لمحاولات الاختراق، والاعتراض على توزيع خرائط تتضمّن «إسرائيل» وتتجاهل فلسطين التاريخية، وتمّ استبدال الكتب المدرسية تصحيحاً ورفضاً لأي اختراق ثقافي.
حذر الاتحاد العام للفنانيين العرب في مصر كلّ من يخرج عن سلوك رفض التطبيع بمقاطعة إنتاجه على المستوى العربي، ورفض اشتراك كيان العدو في مهرجان القاهرة السينمائي لعام 1994، وأعلن نقيب السينمائيين المصريين بأنّ ايّ فنان يزور «إسرائيل» او يشارك في مهرجاناتها ويخرق قرارات النقابة يتعرّض للمساءلة والمحاسبة المسلكية.
أما محاولات التطبيع السياحي فقد واجهته مقاومة شعبية متعددة الأشكال والمظاهر نظراً لما تشكله من مصدر قلق كبير، وظهرت واضحة من خلال قضية السرقات «الاسرائيلية» للآثار المصرية في سيناء، وفي المقابل لا يُقبل المصريون على زيارة «إسرائيل» لأيّ غرض وتحت أيّ عنوان رغم إغراءات شتى.
انّ إلقاء سلطات الأمن المصرية القبض على إكثر من شبكة تجسّس تعمل لحساب «الموساد» ولصالح «إسرائيل»، وشكلت نقمة متراكمة منها القبض على الجاسوس عزام عزام وشخصيات أخرى، وقد شكت السلطة في مصر من تعدد محاولات التجسّس عليها من جانب كيان العدو.
لم ولن يكون الأخير اقتحام الشباب المصري عام 2011 للسفارة «الإسرائيلية»، وأضرموا النار فيها، وكان تعبيراً عن مطالب ثورتي يناير ويونيو.
لن يتغيّر موقف الشعب المصري وطلائعه وقواه الحية من التطبيع وحقيقة الصراع، وسيبقى راسخاً لديه بأنّ «إسرائيل» كيان عنصري استيطاني يغتصب فلسطين والأراضي العربية، فالصراع معه صراع وجود لا صراح حدود…