سورية لن تسقط أمام الغزوة التركية
ناصر قنديل
خلال 13 سنة من الحرب السورية تغيرت خريطة المشاركين في هذه الحرب كثيراً، فعاد العرب وعاد الأوروبيون وكثيرون غيرهم إلى دمشق، وبقيت اميركا و”إسرائيل” وتركيا وقطر وبريطانيا في حال الحرب فقط. وإذا نظرنا الى مشهد الحرب لوجدنا أن خلال سنواتها الماضية والآن هي حرب تركية بامتياز، ولولا تركيا لكان الآخرون بلا حول ولا طول على تهديد الدولة السورية وأمنها ووحدتها وسيادتها، وإذا دققنا بتشكيلات القوات التي تقاتل اليوم والتي قاتلت خلال سنوات، سوف نجد أيضاً أنها ما كانت لتستطيع تشكيل حالة عسكرية محترفة ومنظمة ومموّلة دون قاعدة ارتكاز وخلفية جغرافية وعسكرية واستخبارية تمثلها تركيا، خصوصاً أن تركيا التي يتحدّث رئيسها هذه الأيام عن هجوم للمعارضة ويحدّد له وجهته كراعٍ وعرّاب ومشرف وقائد، فيقول إنها ذاهبة إلى دمشق وإنّه يتمنى ألا تجد عقبات ولا تواجه تعقيدات، هي تركيا ذاتها التي قال رئيسها ذاته في تبرير عدم القيام بما يلزم للقيام بما ورد بنص واضح في اتفاق أستانة بتفكيك التنظيمات الإرهابية التي يتصدرها التنظيم الذي يقود ما يسمّيه الرئيس التركي بهجوم المعارضة. إن هذا التنظيم، وهو جبهة النصرة وقد صارت هيئة تحرير الشام وقائدها أبو محمد الجولاني وقد صار أحمد الشرع، ليست تنظيماً من السوريين بل إن قوّتها تأتي من أكثر من 50 ألف مقاتل أجنبي، ليست لديهم مطالب إصلاحية سورية بالتأكيد، وهم يعرّفون عن برنامجهم كتنظيم عالمي، بناء مرتكز سلطة تحت عنوان إسلامي دولي، لا يغضب أميركا و”اسرائيل” تكفله أمامهما تركيا، وينقل سورية التي تعاديها كل من أميركا و”إسرائيل” وتركيا من موقع الاستقلال والمقاومة إلى موقع التبعية والتطبيع، وقد تحدث خلال ايام الغزوة الأخيرة عدد من رموز هذه الجماعة على قنوات عبريّة ولخصوا الموقف بطريقة رائعة، فقالوا مخاطبين الإسرائيليين “أعداؤنا هم أنفسهم، الرئيس السوري بشار الأسد وحزب الله وإيران”. ولم يفعل هؤلاء ما ينقض هذا القول خلال أربعة عشر شهراً من المجازر في غزة، فلم ينتصروا لها بطائرة مسيرة واحدة تستهدف حيفا نصرة لغزة، من آلاف الطائرات التي أسقطوها على مواقع الجيش السوري في حلب وحماة.
قال الرئيس التركي بلغة متعجرفة، إن ما يجري هو بمثابة عقاب للرئيس السوري لرفضه مبادرة تركية بعقد قمة رئاسية تركية سورية، ويعتقد البعض اليوم أنه كان على الرئيس السوري القبول، فهل هذا صحيح؟ والسؤال هو لماذا لم تنجح كل محاولات التوصل إلى خريطة طريق لتفاهم سوري تركي في اجتماعات ضمت وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء الأركان والمخابرات في البلدين، وسورية قدّمت خلال هذه الاجتماعات مواقف إيجابية من الطلبات التركية الخاصة بالقلق الكردي عند الأتراك كما يفترض، لكنها عجزت عن الحصول على أي جواب عملي بعيد عن الكلام الإنشائيّ الذي قيّدهم الرئيس التركي بقوله وعدم قول سواه، “نحن نؤيد وحدة وسيادة سورية”. وكان ما تنتظره سورية جواباً واضحاً على نيّة الانسحاب من الأراضي السورية ضمن جدول زمني تتزامن خلاله برامج تفكيك الجماعات الإرهابية في شمال غرب سورية حيث الاحتلال التركي، مقابل برامج تفكيك الكانتون الكردي شمال شرق سورية، ومثلما تقول سورية إنّها مستعدّة لتنفيذ التزامها ولو اقتضى استخدام القوة، كانت تنتظر سماع المثل، لكنها لم تسمع إلا الكلام الإنشائي يتكرّر، ثم لاحقاً القول إن هذا يبتّ في لقاء الرئيسين، والمنطقي أن لقاءات الرؤساء تتوّج مفاوضات الوفود وتضع اللمسة الأخيرة على التفاهمات، وإلا تحوّلت إلى مخاطرة بالفشل، وسورية التي تحتل تركيا أراضيها وليس العكس لا تملك ترف مثل هذه المخاطرة، بمنح تركيا صك البراءة على الاحتلال بصورة المصافحة، ثم تمضي الوقت تتسوّل سيادتها. وها هي الغزوة التي يكشف أردوغان عن رعايته لها، خير تأكيد لصواب موقف سورية ورئيسها.
السؤال الثاني الذي يجري تداوله يتصل بالموقفين الروسي والإيراني، ومدى جدّيتهما بالوقوف مع سورية، والجواب هو أن الدولتين لا تملكان أيضاً ترف المناورة والاختيار، فإن سقطت سورية، سوف يتحمّلون أمام مؤيّدي الدولة السورية مسؤوليّة هذا السقوط. فسورية المحاصرة والمعاقبة لا يمكن أن يُنتظر منها النجاح وحدَها بخوض مواجهة حلف يبدأ بواشنطن ويمرّ بأنقرة والدوحة ولا ينتهي في تل أبيب. وهل يتخيل الروس أنهم سوف يبقون في الساحل السوري حتى لو تسامح الأتراك والأميركيون والإسرائيليون مع بقائهم، لأن أهل الساحل سوف يتكفلون بطردهم عقاباً على تخليهم عن سورية ورئيسها، وإيران تعلم أنها سوف تعود بدون سورية إلى دولة وصل بين الخليج ووسط آسيا، وتفقد موقعها الإقليمي كقائد لمحور المقاومة وحامل راية فلسطين، وإذا كان هذا الجواب نظرياً فإن الجواب العملي يقول إن موسكو لا تدخّر جهداً عسكرياً ولا تقدمه لسورية في هذه المواجهة، وإن إيران مستنفرة لضخّ الموارد اللازمة نحو دمشق وحشد القوى والقدرات والحكومات للوقوف مع سورية، أما حزب الله فقد قال وفعل.
السؤال الثالث هو هل تستطيع سورية مع وقوف الحلفاء أن تواجه تحديات بحجم ما يجري، خصوصاً أننا عشية رسم خرائط ما يُسمّى بالشرق الأوسط الجديد ومفتاحها سورية، وعشية تسلم الرئيس دونالد ترامب الذي يسعى الرئيس التركي إلى الحصول على تفويضه بملف سورية مقابل ضمان أمن “إسرائيل”. ونحن غداة حرب ضروس شهدها لبنان وتشهدها غزة، وفي الجبهتين فشل إسرائيلي كبير لا يعوّضه إلا إنجاز بحجم إسقاط سورية، والجواب هو، أولاً لقد تفكك حلف العداء لسورية وخرج منه أغلب العرب وأغلب الأوروبيين، وثانياً لقد اختبر السوريون نموذج الجماعات التي تقود الغزوة، ويعلمون ما ينتظرهم إذا استطاعت فرض سيطرتها، وباتوا يعرفون أيضاً بمشروع التتريك الذي ينتظر بلدهم في ضوء ما جرى في إدلب، بمناهج التعليم وشبكات الاتصالات وتداول العملة. وثالثاً، يعلم العراق ويعلم الأردن أن سقوط سورية في هذه الظروف، وبيد هذه الجماعات، يعني سقوط الأردن كحلقة ثانية وحرباً أهلية في العراق بالحد الأدنى، وتعلم مصر ومن بعدها دول الخليج أن الجماعات الغاضبة التي تتخذ من تركيا مقراً لها سوف تستعيد الحيوية وتطل برأسها بقوة ولن يكون سهلاً ضبط إيقاعها إلا بإسقاطها في سورية. ورابعاً وهذا هو الأهم، أن المعارك التي يخوضها الجيش السوري ومؤيدوه وحلفاؤه سبق وخاضوها في الجغرافيا ذاتها ويعرفون بالتفاصيل نقاط القوة ونقاط الضعف. ولعل هذا ما يفسّر اتخاذ حمص قاعدة لإسقاط المشروع والغزوة والاحتلال التركي.
مرّ على سورية ما هو أسوأ بكثير ونجحت بتجاوزه، لأن كل المناطق التي يجري التباهي اليوم بالسيطرة عليها، بعد حلب وحماة كانت ضمن المصالحات وجماعات المعارضة المسلحة التي بقيت فيها تحت عنوان المصالحة، التحقت بالمشروع التركي، بينما يعلم الجميع أن مناطق مثل أحياء دمشق وغوطة دمشق وطريق دمشق حمص، وطريق حمص طرطوس، وطريق طرطوس اللاذقية، التي كانت كلها ساحات حرب آمنة اليوم، ويعرفون أن المعركة على حمص هي معركة حاسمة في هذه الحرب، فلم لا ننتظر ونرى ماذا ستقول معركة حمص؟