المقاطعة سلاح شعبي دائم…
المحامي فؤاد مطر
بدأت المقاطعة العربية لليهود الصهاينة بهدف إحكام الحصار عليهم اقتصادياً فوراً مع بدايات الهجرة اليهودية عام 1882، وانطلقت بمبادرات شعبية كردّ فعل على تزايد مخاطر الهجرة الصهيونية الى فلسطين .
شهدت المقاطعة أطراً تنظيمية منذ عام 1909 عبر إنشاء منظمات محلية لمنع بيع الأراضي لليهود، والدعوة الى مقاطعة المنتوجات اليهودية.
وتألفت لجان من المسلمين والمسيحيين بالاتفاق مع اللجنة التنفيذية للمؤتمر العربي الفلسطيني منذ عام 1919، ثم أخذت الهيئة العربية تدعو لوقف التعامل مع التجار اليهود، وتدعو أيضاً الأهالي إلى مقاطعة السلع اليهودية ظناً منها أنه يخفف من تدفق الهجرة اليهودية الى فلسطين.
نظمت الجمعية الإسلامية ـ المسيحية مؤتمراً في نابلس عام 1920، وقد أوْصى في مقرّراته بعدم بيع الأراضي للمستوطنين اليهود ومقاطعة المنتوجات اليهودية، ثم واكبت هذه الدعوة تحركات على كافة المستويات، وتبنى ذلك المؤتمر الفلسطيني الخامس عام 1922.
لقد تزامنت حركة المقاطعة مع اندلاع ثورات في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، من القدس الى يافا وجوارها، وامتدت الى طولكرم وحيفا وغزة وبيسان ونابلس، وتتابعت الثورات حتى وقعت الثورة الكبرى بهبة البراق عام 1929 والتي شملت كلّ فلسطين من القدس الى الخليل وصفد ويافا وحيفا وغزة… جراء اعتداء الصهاينة على البراق والمسجد الأقصى، مما أدّى الى عقد مؤتمر في القدس حضرته شخصيات من فلسطين وسورية ولبنان والاردن، وقد صدر عنه قرار قضى بمنع بيع الأراضي للمهاجرين اليهود ومقاطعة الصناعات اليهودية وتشجيع الصناعات العربية.
وبعد ان تضخم عدد المهاجرين اليهود واستيلائهم على مساحات شاسعة انتفض الشعب الفلسطيني من القدس الى يافا… وشهدت كلّ الأراضي الفلسطينية إضراباً عاماً مستمراً دون انقطاع ترافق مع عصيان مدني أدّى الى اندلاع ثورة 1936 التي استمرت ثلاث سنوات بشكل متواصل، وعلى أثره عقد مؤتمر عربي فلسطيني في سورية (بلودان عام 1937) شارك فيه 327 شخصية وازنة من مصر والعراق وسورية ولبنان والأردن وفلسطين والسعودية، وقد ساهم هذا المؤتمر في ان تشمل المقاطعة كافة الأسواق العربية خارج فلسطين.
ومنذ تأسيس جامعة الدول العربية تقرّر في مسألة المقاطعة عام 1945 إغلاق باب الأسواق العربية في وجه المنتجات والمصنوعات اليهودية في فلسطين، وتألفت اللجنة الدائمة للمقاطعة، كما تقرّر مقاطعة الخدمات الصهيونية في فلسطين كالبنوك وشركات التأمين، وبعد نكبة 1948 صدر عن الجامعة قرار قضى بإنشاء مكاتب للمقاطعة، وأوْصى مؤتمرها بإتخاذ ما يلزم من تدابير إدارية وتشريعية لتنفيذ المقاطعة، وتتضمّن في أحكامها سلسلة متكاملة من الإجراءات والتي شجعت على تعزيز القدرات والاعتماد على الذات .
استمرت المقاطعة الشعبية تؤازرها الأنظمة، لكن انحراف السادات وتوقيعه على اتفاقيات كامب دايفيد أدّى الى خرق المقاطعة الرسمية وتعاظمت المقاطعة الشعبية، ثم خفت صوتها بعد اتفاقيتي أوسلو ثم وادي عربة.
لجمت الحالة الشعبية والقوى المدنية ايّ اندفاعة للتطبيع مع أنظمتها، واخذت تستخدم اساليب مستوحاة من لغة الحراك العالمي، إذ أصبح يكثر من المقارنة بتجربة جنوب أفريقيا، ويستخدم قواعد القانون الدولي الإنساني ومبادئ حقوق الإنسان، والتشديد على مشروعية المقاومة المدنية السلمية، ويركز على كلّ ما يتعلق بالاستيطان وميول بعض الشركات للصهيونية.
كما انّ إعلان محكمة العدل الدولية سنة 2004 بعدم قانونية جدار الفصل العنصري الاسرائيلي، وما دعا إليه مؤتمر ديربان في جنوب أفريقيا عام 2001 والذي ضم نحو ثلاثة آلاف منظمة وبما شكل من حركة عالمية لمقاطعة «إسرائيل»، وصولاً الى نداء المقاطعة عام 2005، والانتفاضات الشعبية المتكررة في فلسطين كلها محطات هامة في التراكمات الفاعلة للقضية الفلسطينية.
ثم أعطت حرب غزة عام 2008 وما تبعها من قمع «إسرائيلي» وحشي لمسيرات العودة وفكّ الحصار التي انطلقت من قطاع غزة عام 2018 زخماً للمقاطعة في العالم بأسره.
انّ نشاط المنظمة العربية لحقوق الإنسان في القاهرة ومساهمتها في التحضير لمؤتمر ديربان ومن خلال اجتماعات في عواصم عربية، ومطالبتها بإعادة المماثلة بين الصهيونية والعنصرية وبعزل «إسرائيل» دولياً، وتدرّجها الى مطالبتها المماثلة بين الابارتهايد و»إسرائيل» كان لكلّ ذلك صداه العالمي .
ودعت الثورة التونسية عام 2014 إلى تجريم التطبيع مع «إسرائيل» واعتبار الصهيونية حركة عنصرية، وعندما نصت مسودة الدستور على ذلك واجهت ضغوطات جمّة من منظمة «هيومان رايتس ووتش» وتحركت دول اوروبية للضغط، الأمر الذي ادّى الى التراجع في الصياغة والاكتفاء بعبارة دعم التحرر الفلسطيني.
انّ أحكام المقاطعة تختص بالاهتمام بعدة مجالات منها ما يتعلق بالمؤسسات الثقافية مثل الشركات السينمائية الأجنبية والممثلين الأجانب الضالعين مع «إسرائيل»، والأفلام المتضمّنة دعاية لـ «إسرائيل» أو طعناً في العرب، والانتاج التلفزيوني والمطبوعات الأجنبية المتضمنة دعاية لـ «إسرائيل» أو طعناً في العرب.
انّ العدو «الإسرائيلي» استخدم وسائل متعددة لاختراق المقاطعة والتحايل عليها، واتسمت سياسة الدول الغربية إزاء المقاطعة بالرفض والعرقلة والمواجهة أحيانا، وإصدار التشريعات والقوانين المناهضة للمقاطعة، ودأبت عدة حكومات غربية على الامتناع عن فتح تأشيرة دخول لضابط المقاطعة المكلف بالالتحاق بمكاتب الجامعة العربية في عواصم الغرب، بل انّ الولايات المتحدة الأميركية قد أصدرت قوانين تقاطع كلّ شركة ودولة تقبل المقاطعة العربية.
بالرغم من ذلك تعاظمت المقاطعة عالمياً وازدادت بعد طوفان الأقصى…
انّ الالتزام بمقاطعة الكيان الصهيوني ثابت في نفس الإنسان العربي، لكننا بحاجة الى تحصينه من الاختراق.