تحية إلى غزّة والضاحية
هل خطر ببال أحد أن يسأل:
لمَ تتشح بعض المدن بالسواد، وتَشرق بالدمع حتّى تغصّ؟
ولمَ وقف بعض الشعراء على أطلالها المحترقة كما ابن الرومي في رثائه «البصرةَ»، والبحتري في مناجاته «المدائنَ»، وحافظ إبراهيم في بكائه «مسّينا» التي ابتلعها البحر؟
لم يراودني السؤال إلى أن سمعت بكاء غزّةَ، وعويل الضاحية، وغيرهما من المدن المفجوعة برائحة الموت.
*****
المدينة المفجوعة بوحيدها أشبه ما تكون بأمّ إيطالية فقدت وحيدها، وكانت في حالة يُرثى لها من اليأس، فزارها أحد الرهبان، وحاول أن يعزّيها قائلاً: إنّ الله طلب من إبراهيم أن يذبح بيده ابنه، ويقدّمه أضحيةً له، فلم يتردّد الأب في تلبية طلب الخالق. فأجابت الأمّ الثكلى: هذا صحيح يا أبتِ، بالنسبة إلى إبراهيم، ولكن الله لم يكن ليطلب هذه التضحية من أمّ.
وقدر المدينة أنها أمّ، وأنها مشغولة قطبةً قطبةً بعرق عمّالها، وحبر أبنائها ومفكّريها، ونغمات شعرائها، وأقلام صغارها الملوّنة، وذاكرة مؤرّخيها، وصلوات المؤمنين من أبنائها، وزنود الذين حموا أسوارها.
هؤلاء هم المدينة، وكلّ واحد من هؤلاء عاشت غزّة والضاحية طفولتهم، ورعت نموّهم، وواكبت إبداعاتهم، وحمتهم برموش العين. أليس هذا ما تقوم به الأمّ تجاه أبنائها؟
نعم… وإلّا لما طغت المشاعر الإنسانية الدافئة على ما يسمّى برثاء المدن، ولما كان الوعد لأجيال لم تولد بعد بأنّ وراء هذا الركام الأسود حقولاً من الياسَمين وشقائق النعمان، وأنّ المدينة أمٌّ تبكي إلا أنها «تموت ولا ترضع بثديها».
*****
لنتذكر اليوم، والضاحية وغزة تلملمان جراحهما، ما قاله غاندي:
«ليس ثمّة أمّةٌ استطاعت أن تنهض من غير أن تطهّرها نار العذاب… إنّ طريق الاستقلال يجب أن تغسله الدماء».